قد يدقق مدير مؤسسة على تقريرين لموظفين متفوقين لأجل التوصية، ويظل حائراً متشتتاً تطارده أوهام تشتت حسمه في قرار إصدار ترقية لأحدهما، فالأول موظف أجنبي وقد يكون وافداً مقيماً، والآخر من مواطني الدولة، كلاهما يتسمان بكفاءات وإمكانات هائلة، ويتحليان بعقليات استثنائية، تؤهلهما لتحقيق نجاح باهر على كل الصعد.
كما يتصفان بقدرة عالية في تقديم مخططات وأبحاث مجدية، وإحداث تغيرات جذرية في مؤسسة معينة، قد تلعب في حركة الاستثمار والأسهم، غير أن الموظف الأول يقاضي رواتب مغرية، ومبالغ هائلة من دون الحاجة إلى ضمان مركز محدد في السلم الوظيفي، وقد يكون إقامته لفترة محددة أو لفترات طويلة، ثم يرحل تاركاً كومة من المخططات والبحوث والاقتراحات قد تؤثر في صعود الإنتاجية لاحقاً، أما الموظف الثاني فهو مواطن ترعرع في أحضان وطنه، وغرس بتعاليم قادته، وذكريات أجداده، ويتطلع إلى نصب لبنة في هرم النهضة، والمساهمة بشغف في صنع المستقبل، وقد يتفانى في العطاء وتقديم خدمات جليلة في التخطيط والتطوير، إلا أنه خلافاً للموظف الأول يحظي بخاصية التسلسل الوظيفي.
وربما في المستقبل تتجاوز رتبته رتبة ذاك المدير الحائر، أو قد يجده جالساً ضاحكاً في مكتب أكبر، وعلى أريكة أفخم، وقد لبس ثوب المدير المتسلط والمتآمر على الموظفين، وقد يرأس ذاك المدير على طاولة الاجتماع المقامة دورياً. ظل أصداء قهقهاته تراوده حتى عاد التقريران في الملف للدراسة والتدقيق في حين آخر، فيا ترى ماذا سيقرر المدير الحائر؟ هل يصغي لأوهامه المشاكسة وأطماعه، مقدماً نفسه فوق المصالح العامة أم يسمع نداء ضميره وانتماءاته الوطنية؟
وغالباً يتكون المجتمع من أفراد مختلفة وشرائح متنوعة، فبينهم الموظفون والمفكرون والعمال والموهوبون، ولكل فرد رسالة وطاقة محددة لإنجاز مهمة ما، وقد تلجأ كثير من الدول لاستقطاب المواهب والعقول للمساهمة في البناء والنهضة، وقد تلعب تلك العقول دوراً ثانوياً وأحياناً محورياً في ميادين كثيرة، ومن وسائل جذب هذه العقول والمواهب واستقطابها من قواعدها توفير الرفاهية وكافة وسائل الراحة والبيئة الخصبة وامتيازات وحوافز مغرية.
ومن خلال مؤشرات ودراسات أهمها شركة لينكيدن للدراسات ومقرها الولايات المتحدة للعقول المهاجرة والدول المستقطبة للمواهب، أظهرت المؤشرات أن من الدول المحتلة في رأس القائمة في استقطاب العقول والمواهب هي دولة الإمارات العربية المتحدة وسويسرا ونيجيريا والمملكة العربية السعودية والهند، وكانت من أكثر الدول المصدرة هي إسبانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا.
وقد تلعب تلك المواهب والعقول المستقطبة في الحركات ألاقتصادية والعمرانية والثقافية، إلا أن من الضرورة التأكد من أن استثمار تلك العقول الأجنبية لا يكون على حساب قيمة الإمكانيات المحلية ومواهب المواطنين، كما من الضرورة دعم وسن القوانين والمتابعة الحثيثة وإتاحة جميع السبل للعقول المحلية الفذة، وأخذ كل وسائل الحيطة والحذر للمحافظة على مستوى أداء تلك العقول الخامة والمبتكرة، وضرورة بحث ودراسة مدى تأثير الإمكانات والقدرات الأجنبية في وزن المواهب المحلية، ومتانة ومتطلبات العطاءات المحلية، والتأكد من عدم تهميش الإمكانات الخاصة، وضمان عبورها سالكة من دون تخبط أو تعرضها لأي عوائق قد تسبب تأخرها، أو إبطالها من جراء استقطاب العقول الأجنبية.
يعتبر الزعماء والأدباء وغيرهم من المشاهير من علامات المجد ومن الأعلام البارزة لأي دولة، وقد يبقون شموع متلألئة في السماء على مر السنين، لذا من الضرورة غرس وتعزيز ثقافة الاعتزاز بالمواهب الفذة المحلية والمحافظة عليها.
قد يتأنى المدير لقراره أو يفيق من حلمه المشاكس آجلاً، ويوصي بقرار عادل لصالح كل الأطراف.