أثار استفتاء الحكومة اليونانية بعدم قبول مقترحات دائنيها استغراب الكثيرين، فالشعب اليوناني مثله أي شعب آخر يريد الحصول على خدمات دولة الرفاه، دون ضرورة دفع ما يصاحب ذلك من ضرائب وأسعار تغطّي تكلفة هذه السلع أو الخدمات. والدَّين اليوناني الذي وصل إلى مستوى كبير بلغ 267 مليار دولار، يحتاج من الحكومة اليونانية إلى عشرات السنين لتسديده، غير أن المشكلة ليست في التسديد ولكن في مواصلة ضخّ الأموال لتأمين متطلبات الحياة بمستويات مقبولة للمواطنين اليونانيين، وفي الوقت نفسه إغراق ميزانية البلاد أكثر فأكثر في بئر لا قاع لها تسمى بالمديونية الدائمة.
ومسألة المديونية والإفلاس ليست مسألة جديدة، فخلال المئة عام الماضية تعرّض أكثر من ستين دولة في أربع قارات كبرى إلى حالات إفلاس أو شبه إفلاس. ولعل من حسن الطالع أن هذه الحالات لم تكن بالضرورة متزامنة، فلو كانت كذلك لأصبحت هناك أزمة مالية عالمية، أو حتى انهيار اقتصادي عالمي.
وفي قائمة الدول التي لم تتمكن من تسديد ديونها في الوقت المحدد لدائنيها، هناك دول كثيرة في العالم العربي وفي أوروبا وفي آسيا، وكذلك في أميركا الجنوبية. والمشكلة الأزلية هي عدم قدرة حكومات هذه الدول على موازنة مصروفاتها مع عائداتها المالية، وما تستطيع الحصول عليه من ضرائب ورسوم ومعونات وقروض.
ويتزامن إفلاس الدول تاريخياً مع الحروب الإقليمية التي تمتصّ ميزانيات الدول دون أن تدرّ عليها أيّ عائد ماديّ. وكلنا يتذكر كيف أن بريطانيا احتلّت مصر واستولت على قناة السويس، حين لم تتمكن الحكومة المصرية في عام 1876، من دفع ديونها. ولم يعد مثل هذا الإجراء اليوم مقبولاً، وإلا لاحتلّت كل من ألمانيا وفرنسا أجزاء من اليونان لدفع مستحقات بنوكهما التي وصلت إلى 100 مليار يورو.
ولعلّ من الطُّرف الإشارة إلى أن إفلاس التاجر في التاريخ اليوناني القديم يعني أنه سيصبح عبداً رقيقاً، هو وأسرته وخَدمُه لدى الدائن لفترةٍ تصل إلى خمس سنوات. وبالطبع، فإنّ هذه الأفكار التي نوردها للتسلية هنا لم تعد مقبولة أو منطقية، ولكنها تضع الصورة الذهنية في إطار محدد، وهي أن القرارات المالية للدول تستوجب نتائج وتداعيات على المدى الطويل، سواءً كانت هذه النتائج إيجابية أو سلبية.
والحقيقة أن المديونية ليست صفة خاصة بالدول الفقيرة، بل كذلك الدول الغنية والمتقدمة. فمديونية الولايات المتحدة (على المستوى الوطني) تصل إلى 18 تريليون دولار، أو ما يساوي 105% من الدخل القومي الأميركي. وهناك موقع جميل تفاعلي على الإنترنت، يقدّم إحصائيات حيّة عن مديونية الولايات المتحدة سواءً على المستوى الفيدرالي، أو المحلّي، وكذلك على مستوى الأفراد: (usbtclock.org).
ولعلّ من حسن طالع الحكومة اليونانية، أن هناك دولاً مثل ألمانيا وفرنسا تريد أن تحمي بنوكها من الانهيار، وهي تحاول ضخّ أموال في ميزانية الحكومة اليونانية وفي البنوك، وبشروط قد تبدو مجحفة للشعب اليوناني. وفي الولايات المتحدة، في حال أفلست ولاية معيّنة -مثل نيويورك قبل عدة سنوات- أو مدن كبرى -مثل ديترويت عام 2013- فإنّ الحكومة الفيدرالية تصبح هي الأم الرؤوم التي تهبّ لنجدة تلك الولايات أو المدن، وتمدّها بقروض ميسّرة حتى تعود إلى الوقوف على قدميها. أما في بلدان العالم الثالث، فإنّ صندوق النقد الدولي، ونادي باريس، وغيرهما من المؤسسات المالية العالمية، لا تقوم بمثل هذا الواجب، وربما تركت تلك الدول تغوص في أوحالها المالية، دون منقذٍ أو مغيث.
ولاشكّ أن سوء الإدارة المالية هو السبب الرئيس وراء هذه الأزمات المالية، والتي قد تجرّ دولاً أخرى معها في انهيارات اقتصادية ومالية ضخمة. غير أنّ هناك أسبابًا ليست من فعل الدول نفسها، فالحروب وعدم الاستقرار السياسي أسباب مباشرة لزيادة مصروفات الدول في صد هذه الأخطار المحدقة بها، ومثل هذه المصروفات ليس لها عائد مالي مباشر، إلا أنها ترهق ميزانيات هذه الدول وتدفعها إلى الاقتراض الداخلي أو الخارجي.
ولذا، فإن الأمن والاستقرار السياسي مدعاة لرفاه وتنمية اقتصادية حقيقية، وزيادة مطّردة في الدخل القومي للدول، وهو ما يجعل الدول في حال من الاستقرار المالي المصاحب.