قبل تسعة وثلاثين عاماً، وفي عام 1975 أصدر الشاعر العربي الراحل نزار قباني كتابهُ النثري الرائع بعنوان (الكتابة عمل انقلابي)! وكان مما قاله آنذاك: «الشرط الأساسي في كل كتابة جديدة هو الشرط الانقلابي، وهو شرط لا يُمكن التساهل فيه أو المساومة عليه».
«بالشرط الانقلابي نعني خروج الكتابة والكاتب على سلطة الماضي بكل أنواعها الأبوية والعائلية والقبلية، وإعلان العصيان على كل الصيغ والأشكال الأدبية التي أخذت – بحكم مرور الزمن – شكلَ القدر أو شكلَ الوثن».
«أن تكون كاتباً عربياً في هذه المرحلة الساخنة بالذات، دون أن تؤمن بالشرط الانقلابي، معناه أن تبقى متسولاً على رصيف لطفي المنفلوطي وأبواب المقاهي التي يقر الراوي فيها قصة عنترة وأبي زيد الهلالي».
المقصود هنا بالشرط الانقلابي هو التحرر من تكرار التجارب السابقة، وترديد النص الذي حَكمنا لآلاف السنين، والبحث عن قوالب وأساليب جديدة في الكتابة الإبداعية! ولو قُدّر للشاعر العربي أن يعيش حتى هذا اليوم لحتماً أصدر كتاباً بعنوان (الكتابة عمل انتحاري)؟!. ذلك أن الأحداث الحالية تبدو أكثر سخونة من أحداث السبعينيات، وأن تطوُّر وسائل الإعلام وانتشار وباء «الحساسية» المُفرطة يزيد من تعقيد القضية. فأنت لا تعرف أين حدود الكتابة الآمنة!؟ وكيف تتخطى حقول الألغام المنصوبة في كل الجهات؟ وأنت لا تستطيع استيعاب تفسيرات «دهاقنة» التفسير في الغرف المظلمة؟ ولا تعرف درجة صفاء «المزاج العام»!؟ وأنت وإن كنت واضحاً كل الوضوح في كشف وإبراز شواهد الإيجابيات في القضية التي تناقشها، لن تسلم من سوء التفسير، وسوء «الاشتباه» بعقلك أو فكرك، ولن تسلم من سوء أهل السوء مهما كنت نقياً وشفافاً ومخلصاً في القضية التي تناقشها.
الكتابة في العالم العربي عمل انتحاري بالفعل، ومع أن الكاتب يراجع – في الأغلب – مقالته أو كتابه مرتين أو أكثر، ويحرص على ألا يقترب من «الخطوط الحمراء» التي تُعكّر المزاج، ويتجمّل بروح الحياد، لا الانقياد الأعمى، كما كان يفعل «الإنكشاريون» في صفوف المقاتلين عند الثغور، إلا أنه يظل محاطاً بـ«الكائن الخرافي» الذي يُحطّم أضلاعه ويرمي رأسه للسباع في صحاري العطش.
الكاتب العربي إما موظف خجول ومسالم عند باب المسؤول! أو عجوز متقاعد يريد أن يزيد من دخله كي يعوّض ما فاته من «نعماء» الزمن الذي غدر به قبل الأوان، أو صاحب أيديولوجية محددة يدافع عنها، ولا يعلم متى سيمثل أمام القضاء. ولا يمكنه أن يبرح مكانه حتى لا يأتي أحد الطفيليين ويحتل مكانه ويأخذ مساحة من اهتمام المسؤول الكاتب العربي يُحاسَب على ذِكر لونِ علم بلاده، أو من رسم خريطة بلاده، أو التحدث عن الأصدقاء في عالم الدبلوماسية، أو عن مستقبل العلاقات الدولية، أو تحليل واقع جليّ لا يحتاج إلى الكثير من (الفلسفات) أو الشطحات الإعلامية، حتى يفهمه الجمهور.
الكاتب العربي- حتى في أعتى بلدان الحرية العربية – يحُاذر من «التَجرجر» في المحاكم، ومن زوار الليل، ومن تهمة الخيانة العظمى أو التخابر مع جهات أجنبية !؟ ومثل هذه التهم يُمكن أن ترمي به خلف الشمس وبكل سهولة.
التفسيرات السلبية تلاحق الكاتب العربي، تماماً كما هي ثقافة الحسد والتوجس والاتهام المُسبَّق.
أنا لا أعرف لماذا يريدون الكاتب العربي أن يلتزم بخط (ابن المقفع)، وخطوط (بديع الزمان الهمذاني)، ويحفظ نقائض (جرير والفرزدق) عن ظهر قلب! ويلتزم بشواهد (داحس والغبراء) وصورة (ضِرع) البسوس!.
إن الكاتب الذي ظل ثلاثين عاماً وهو يردُّد نفسَ الكلمات ونفسَ المواضيع ونفسَ التردد والتوجس، يعيش في دائرة ضيقة لا تسمح لنور الشمس أن تنفد لها. وهو يُسيّجُ نفسه بسياج مرتفع لا يسمح لخيوله الموجودة بداخله بممارسة الصهيل، أو القفز على صهواتها.
إن الكاتب الذي لا يرفع رأسه عن ورقة التاريخ، وعن «فرمانات» العادة التراثية، يظل يُكرر نفسه ويجتّر عباراته، ويخنق نفسه بثاني أكسيد الكربون، وهو بذلك يفتقد قيمة استنشاق هواءٍ جديد تسعد به رئتاه وينفتح به عقله.
لقد سئمنا التكرارات، واتخاذ النصوص أوثاناً للجيل الجديد، هذا الجيل الذي يُعلموُنه في الجامعات الأجنبية قيمة الحرية وقيمة بناء الشخصية، وقيمة الرأي الخاص الذي يجعل منه إنساناً كاملاً.
إن الصور والنماذج الكاريكاتورية التي نشهدها في بعض الصحف العربية على هيئة مقالات رأي، ما عادت تتلاءم مع هذا العصر، كما أن «ضيق الصدر» وسوء التفسيرات، في عالم يؤمن أهلهُ بالانفتاح وحرية الكلمة، ما عادت تصلح لهذا العصر!
ولكننا مع ذلك، نؤمن بأن الكتابة في هذا العصر العربي عمل انتحاري، وإذا لم يؤمن الكاتب بهذه الحتمية، عليه أن يكسر قلمه ويستند إلى الجدار.