هو ليس عيدا بالمعنى الذي يظنه البعض، هو أكثر من عيد وأكبر من مناسبة وأعظم من كل حالات التكرار التي نعرفها، التكرار للمناسبات، لأيام الدوام الطويل الممل، للمسلسلات التركية، لمشاوير التسوق، للزيارات العائلية، لحفلات الزفاف وأعياد الميلاد، لرصف الشوارع وبناء الجسور وتشييد الأبراج في المدينة، هذه الحالات والمناسبات وغيرها هي ما ينطبق عليها وصف التكرار في الحقيقة لكنني لا أجد يوم الأم مناسبة متكررة أو عادية يمكن أن تمر هكذا ببساطة، الذين لا يتوقفون عند هذا اليوم، لا تنبض قلوبهم بذكر أمهاتهم، والذين يظنون أن الأمهات ثابتات كالوشم يخطئون، فالأم يمكنها أن ترحل مخلفة في القلب فراغا هائلا كثقب أسود ودويا مرعبا كانفجار قنبلة، الذين لا يمارسون جردا يوميا لحسابات الربح والخسارة في علاقتهم بأمهاتهم سرعان ما سيخسرون ويغلقون دكاكينهم العاطفية في أي لحظة، فكل بضاعة لا تمد جذرا إلى قلب الأم بضاعة يابسة، جافة وبلا رائحة!
حين حدثتني عن رحيل والدتها الأخير، قالت “كنت في سفر بعيد، حدثتها وعاتبتني لأنني لا أقضي وقتا معها، شكت لي جلوسها الطويل بصحبة الوحدة والصمت، حينها - قالت لي - قررت أنني يجب أن أغير سلوكي معها وأمنحها وقتا أطول واهتماما أجمل، كانت آخر من حدثتهم من إخوتي، كنت في الطرف الآخر من الكرة الأرضية وكانت في بيتنا الكبير والقديم هنا في دبي، بعد قليل جاءني هاتف إحدى أخواتي قالت لي كلمتين أطول من كل العبارات التي سمعتها في كل حياتي، قالت الكلمتين وأغلقت الهاتف فكأن الدنيا أغلقت كل أبوابها في وجهي: أمي ماتت، وانتهى الحديث، لم أحتج لأكثر من ذلك لأسقط داخل بئر بلا قرار!
ذلك الشاب ذو الثياب القصيرة واللحية الكثة والملامح القاسية - علامة التدين كما يظن - لم يمهل نفسه قليلا، لم يفكر قبل أن يطلق فتواه أو رأيه في وجه ذلك الصغير الذي دخل حاملا زجاجة عطر طالبا مني أن أغلفها له بشكل يشبه ذائقة والدته ليقدمها لها في عيدها، فإذا بالسيد المتدين ينطلق كرشاش قاتل “عيد الأم حرام، هذه بدعة من صناعة الكفار وأسياد التجارة، لترويج سلعهم البائرة” قلت له “حرام عليك أنت”! لماذا زلزلت قناعة هذا الصغير بالبهجة والفرح والحب، لم يكن يعلم شيئا عما ذهبت إليه، لم يكن يرى السوق والكفار وصراعات القرون، كان يركض بزجاجة العطر التي تشبه رائحة والدته ولم يكن يشم أو يرى سواها “حرام عليك”!
الذين يرون الشجرة يحرمون أنفسهم متعة النظر الى الغابة، والذين يستحبون التضييق في كل شيء يحرمون أنفسهم حكمة الاتساع والفرج والتسامح، الذين لا يرون في يوم الأم أو يوم الشجرة أو يوم العمال سوى التحريم فقط فإنهم يحرموننا ويحرمون أنفسهم نعيم البصيرة والرؤية والرحمة، فالأم شجرة والشجرة عطاء والعمال كدح وبناء، وكلها معانٍ تستحق التكريم والاحتفاء وأن نرفعها عاليا فوق رؤوسنا كبيرق انتصار لإنسانيتنا، لارتقائنا فوق المشاعر والممارسات التافهة!
أول هدية في عيد الأم اشتريتها كانت لمعلمة اللغة العربية، كانت مرآة على شكل كرة أرضية تعزف مقطوعة موسيقية حين تفتح، اشتريتها بصحبة خالي من أحد أسواق دبي وكنت في الصف الثالث الابتدائي وقد شجعتني والدتي على شرائها ودفع خالي ثمنها، جزا الله معلمتي كل خير ورحم الله خالي وحفظ لي والدتي من كل شر ومكروه.. بهذه المناسبة النبيلة في يوم عيد الأم نرفع لكل أمهات العالم أعظم تحية إجلال وعرفان.