بلغ هذا التقارب مراحله الحاسمة الشهر الماضي بلقاءٍ غير معلن بين وفد «حماس» بزعامة قائدها في غزّة يحيى السنوار لمصر في 4 يونيو (حزيران)، مع القيادي الفلسطيني المفصول هو وعدد من القيادات المحسوبة على جناحه، بوساطة من المخابرات المصرية، إذ تضمَّنت الوساطة إعادة العلاقات مع الجانبين، والقبول بدحلان رئيسًا للسلطة الفلسطينية، مقابل رفع الحصار على القطاع، وفتح معبر رفح بشكلٍ دائم، وتعيين عدد من قادتها وزراء في الحكومة.
تبدو هذه الصفقة التي تظهر تجلياتها علي الواقع الفلسطيني في طريقها للإتمام، في ظل عدم قبول دول الإمارات ومصر والأردن بمحمود عباس، وتعويلهم على دحلان في تقديم تنازلات لتسوية القضية الفلسطينية، واحتواء حركة حماس بعيدًا عن جماعة الإخوان المسلمين.
وتظلُّ المُعضلة التي تواجه الحركة هي تسويق هذا التقارب مع دحلان، خصم الحركة التاريخي، لكوادرها التنظيمية، في ظل انقساماتٍ كُبرى بين قادتها حول هذه التسوية التاريخية، قد تُشكل اختبارًا حاسمًا لمدى تمسك التنظيم.
رجل «محمد بن زايد» في مصر: سطوة إعلامية.. ونفوذ سياسي
تحقق لمحمد دحلان نفوذ واسع داخل أروقة السلطة المصرية خلال الأعوام الأخيرة، جعلته مُتحكِّمًا في توزيع الأدوار داخل دوائر الحكم، بإيعازٍ من الإمارات، وولي العهد محمد بن زايد، الذي عيّنه مستشارًا للشئون الأمنية. فدحلان الذي لعب الدور الرئيس في تمويل حركة تمرُّد بأموالٍ إماراتية، وتأسيس كياناتٍ إعلامية مناهضة لحُكم الرئيس المعزول محمد مرسي، مارس نفس المهام على السلطة التي تشكلت بعد تنصيب عبد الفتاح السيسي رئيسًا للبلاد.
تجلَّى هذا الدور في تحقيق سيطرة مالية كُبرى لدولة الإمارات عبر التحكُّم في الأزهر الشريف من خلال التبرعات الإماراتية السخيّة، وفي القطاع المالي عبر منح الشركات الإماراتية حقّ الاحتكار على كُبرى الصفقات التجارية، فضلًا عن استثمار نفوذ الفريق أحمد شفيق المرشح الرئاسي السابق، عبر إيوائه في الإمارات، وتدعيم جناحه داخل مصر، بالضغط على السيسي في التماهي الكامل في المواقف مع الإمارات.
تحقق لدحلان النفوذ الإعلامي أيضًا، عبر تمويله عددًا من الصحف اليومية، بصورةٍ غير معلنة وتوزيعه هدايا نقدية على عددٍ كبيرٍ من كتَّاب الرأي، وتأسيسه قناة إخبارية جديدة تنطلق من القاهرة، وتناقش الأوضاع العربية، من منظورٍ إماراتيّ، وتستضيف الكُتاب الموالين للإمارات، وتمنحهم فرصًا استثنائية كمقدمي برامج، وضيوف لأغلب برامجها.
مُتورط في تصفية خصومه: «فرقة الموت» تُنفذ اغتيالات سياسية لحسابه
ارتهنت تطلُّعات دحلان السياسية وقدراته اللامحدودة في تسويق نفسه لحلفاءٍ جدد، بتنفيذ عملياتِ اغتيال بحق خصومه السياسيين، وتشكيل فرق مسلحة كـ«فرقة الموت» لمحو قائمة من الرموز السياسية شكلت حاجزًا حيال سلوكه السلطوي، وتطلعات حلفائه من الدول العربية.
فحسب الوثيقة الرسمية التي نشرها عضو اللجنة المركزية في «فتح» نبيل شعث، والتي استقت معلوماتها من جلسات التحقيق مع دحلان، فإنَّ أول الاتهامات التي كانت موجهة له اغتيال اللواء كمال مدحت في بيروت، بوضع عبوة ناسفة أسفل سيارته، ما أدى إلى مقتله.
وشملت قائمة الاغتيالات التي نشرتها الوثيقة الرسمية الصادرة من منظمة التحرير الفلسطينية، كلًّا من: الإعلاميّ الفلسطينيّ خليل الزبن، ومنسّق هيئة الإذاعة والتلفزيون في غزة هشام مكّي، والقيادي في «حماس» حسين أبو عجوة.
وتضمنت قائمة اغتيالات دحلان كذلك القيادي في «حماس» محمود المبحوح، حسبما كشفت جريدة «هآرتس» الإسرائيلية، التي أوضحت أن دحلان كان له الدور الرئيس بالتنسيق مع ضاحي خلفان، المسئول الأمني بدبي في عملية اغتيال القيادي الحمساوي بأحد فنادق دبي.
وامتدت قائمة الاغتيالات لتشمل قائد «كتائب القسام» صلاح شحادة، التي تولَّى دحلان متابعة تفاصيلها، حسب رواية الرئيس الفلسطيني عباس أبو مازن، في لقاء للجنة المركزية عقده في عام 2014، ذكر فيه أنَّ محمد دحلان كان على علمٍ بمحاولة اغتياله وكان يتابع تفاصيلها، وأخبره – حين كان برفقة أبو عمار – أنّ شحادة سيُقتل خلال دقائق، ووصف عباس حالة غضب دحلان عند معرفته بفشل المحاولة.
لم تقف مساعي الانتقام السياسي لدى دحلان عند هذا الحدّ، بل وصلت إلى احتمالات كبرى تتعلق باضطلاعه باغتيال الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، عن طريق تسميمه بإدخال علب دواء تمَّ دس السمّ فيها إلى غرفة عرفات مرة عن طريق مرافقي عرفات (واعترف المرافقون بذلك) ومرة عن طريق وفدٍ أجنبيّ جاء للتضامن مع عرفات.
وذكرت تحقيقات الحركة مع دحلان والوثائق الرسمية التي نشرها نبيل شعث أن دحلان طلب من رئيس حرس الرئاسة «أبو عوض» جمع كافة علب الدواء وحرقها، بعد وفاة الرئيس عرفات، مُهدِّدًا إياه بمصيرٍ سيئ حال كشفه أمره، قبل أن يجد رئيس الحرس نفسه معتقلًا من جانب الاحتلال الإسرائيلي بإيعازٍ من دحلان.
استثماراته في الشرق والغرب: شركات تجارية وإمبراطورية مالية
وفق تحقيق استقصائي منشور بجريدة الجارديان البريطانية، كان دحلان الوسيط المالي في توسيع استثمارات دولة الإمارات التجارية والعسكرية داخل الدول الأوروبية الواقعة بمنطقة أوروبا الشرقية، وهو ما حقَّق لدحلان أموالًا طائلة نتيجة هذه الوساطة، وتمتّعه بالجنسية الصربية هو وعائلته مكأفاةً من الدولة الأوروبية على خدماته ووساطاته.
وقدّرت هآرتس في عام 1997، أرصدته في المصارف الإسرائيليّة بمقدار 53 مليون دولار، بينما راج عنه خلال عضويته بحركة فتح توليه مسئولية التطبيع الاقتصادي مع إسرائيل، وشراء التمور من المستوطنات، وتجارة سلاح مع سكان 48.
تجلَّى هذا الدور في استحواذ شركة «طيران الاتحاد» المملوكة لحكومة أبو ظبي على 49% من أسهم الشركة الوطنية للطيران «إير صربيا»، كما وقّعت شركة الأسلحة الصربية «يوغوامبورت» وشركة «الإمارات القابضة للبحوث والتكنولوجيا المتطورة» (إيرث)، العام الماضي اتفاقًا بقيمة 200 مليون دولار.
وشكّلت المدينة الصربية مونتينيغرو، مركزًا ماليًّا نافذًا للقيادي الفلسطيني في استثمار وغسيل أمواله من أجل تأسيس شركات تجارية، وتسجيلها تجاريًا في بودغوريتشا، بما في ذلك «شركة الشرق الأوسط الدولية»، والمسجلة للقيام بأعمال الاستشارات والإدارة، وشركة «المنارة القابضة» التي أُنشئت لتطوير المشاريع العقارية.
وشملت قائمة استثمارات دحلان التجارية شركة هيدرا للاستثمار التجاري، بالجبل الأسود والتي تتولَّى بناء منتجعات سياحية وفنادق بقيمة 180 مليون يورو ويدير هذا النشاط في مدينة بودفا في الجبل الأسود، مركز تجاري في مدينة بودجوريستا Podgorica تقدر قيمته بـ200 مليون يورو.
عرَّاب التنسيق الأمني مع إسرائيل
بينما يتحدَّث دحلان في كافة لقاءاته التليفزيونية، ومنصات المؤتمرات التي يعتليها عن عدائه لإسرائيل، وضرورة تفعيل المقاومة؛ يستثمر في المقابل سنوات تنسيقه مع إسرائيل ونسجه لصلاتٍ وثيقة مع مسئولين إسرائيليين خلال السنوات السابقة، في تصدير صورة له بكونه الأمين على مصالحها في اللقاءات السريَّة.
تجلَّت هذه الصلات في دفع إسرائيل له خلال الشهور الأخيرة، لرئاسة السلطات الفلسطينية، إذ ترى فيه الرجل الأقدر على تحقيق المعادلة الصعبة التي تريدها، وهو ما لمّحت إليه صحيفة «معاريف» بحديثها عن لقاء مبعوث رئيس الحكومة الإسرائيلية، يتسحاق مولخو، بدحلان في دبي.
ونجح دحلان خلال شغله المناصب الأمنية العليا (رئيسًا لجهاز الأمن الوقائي ووزير الأمن الداخلي)، خلال فترة وجوده بفلسطين في توسيع حجم التنسيق الأمني مع إسرائيل، ومنحهم صلاحياتٍ واسعة في التجسس وتصفية كوادر المقاومة وحركة حماس الفلسطينية.