أحدث الأخبار
  • 09:49 . "هيومن رايتس ووتش" تدعو الحكومات لمراقبة جلسة الحكم في قضية "الإمارات 84"... المزيد
  • 09:31 . ندوة حقوقية تسلط الضوء حول كيفية استخدام أبوظبي لإجراءات "سحب الجنسية" كأداة لعقاب المعارضين... المزيد
  • 09:27 . الأمم المتحدة: محاكم "إسرائيل" بالضفة توفر غطاء لتعذيب الفلسطينيين... المزيد
  • 08:43 . القسام تبث مشاهد لإيقاع قوة إسرائيلية في كمين محكم بالشجاعية... المزيد
  • 08:36 . وزير الخارجية السعودي: الاعتراف بدولة فلسطين مسار السلام بالمنطقة... المزيد
  • 07:17 . سرايا القدس: بعض الأسرى الإسرائيليين بغزة حاولوا الانتحار... المزيد
  • 07:06 . أدنوك ومجموعة "إي آند" تبرمان شراكة لبناء شبكة لاسلكية مخصصة لقطاع الطاقة... المزيد
  • 12:59 . "إيسيسكو" تعتزم إصدار ميثاق العالم الإسلامي للذكاء الاصطناعي... المزيد
  • 11:20 . الاحتلال الإسرائيلي يبدأ إخلاء بؤرة استيطانية "غير قانونية" في الضفة الغربية... المزيد
  • 10:31 . إيطاليا: أزمة البحر الأحمر أثرت على نظامنا التجاري بأكمله... المزيد
  • 10:25 . أصوات ديمقراطية تطالب بايدن بالانسحاب من السباق الرئاسي بعد مناظرته أمام ترامب... المزيد
  • 10:20 . عبدالله بن زايد يؤكد لـ"بلينكن" دعم أبوظبي لجهود وقف إطلاق النار في غزة... المزيد
  • 10:18 . تركيا تهزم النمسا وتتأهل للقاء هولندا في دور الثمانية ببطولة أوروبا... المزيد
  • 09:58 . منظمة حقوقية: أبوظبي استخدمت بشكل منهجي "تجريد الجنسية" لقمع الناشطين... المزيد
  • 09:28 . الأرصاد يتوقع انخفاض درجات الحرارة في الإمارات غداً... المزيد
  • 09:26 . مقتل ما لا يقل عن 107 أشخاص في حادث تدافع بالهند... المزيد

القليل والبسيط

الكـاتب : ياسر حارب
تاريخ الخبر: 30-11--0001

شاهدتُ قبل أيام فيلماً اسمه «سارقة الكتب» يروي قصة فتاة صغيرة تُضطر للعيش في إحدى القرى الألمانية مع رجل وامرأته، تبنّياها إبّان الحرب العالمية الثانية بعد أن تخلّت أمها عنها. يتكون المنزل الذي تعيش فيه من سرداب، وغرفة نوم وغرفة جلوس وطعام، وعِلِّيّة صغيرة في الطابق الأول بها سريرها الصغير.

تدخل الفتاة المدرسة ولكنها لا تعرف القراءة، فيبدأ والدها الجديد بتعليمها الحروف الأبجدية ويرسم لها الكلمات على جدران السرداب السوداء، حتى تحولت تلك الجدران المهترئة إلى قاموس للكلمات.

ولأن النازيين يمنعون الناس من القراءة، فإن كل كتاب تجده الفتاة يصير ثروة بالنسبة إليها. وصادف أنها عندما أتت إلى العائلة كانت تحمل معها كتاباً عن كيفية دفن الموتى، وبما أنه الكتاب الوحيد الموجود في المنزل، قام الأب بتعليمها القراءة فيه.

وفي يوم من الأيام أشعل أفراد الحزب النازي ناراً عظيمة في وسط القرية ودعوا الناس لحرق كتبهم فيها، وعندما خمدت النار، تسللت الطفلة وسرقت كتاباً لم يحترق بعد، فحملتهُ بين يديها وكأنها تحمل الكون بنجومه وكواكبه، واتجهت تعدو إلى البيت.

تُصوّر لنا القصة مدى محدودية الأشياء وبساطتها وندرتها في حياة القرية، فالطعام قليل، والمنازل صغيرة، والحريات مقيّدة جداً من الدولة، ومصادر الدخل تكاد تكون معدومة، ولكن، تستطيع سارقة الكتب، والطفل الذي رافقها خلال القصة، أن يجدا السعادة باللعب في الساحات القديمة، وفي الأزقة الثلجية التي تقودهما إلى المدرسة كل يوم.

أما هي، فسعادتها الحَقّة كانت عندما تفتح كتاباً، أي كتاب، وتنتشي حَدّ الانتشاء عندما تتعلم كلمة جديدة؛ فتسارع إلى كتابتها على جدران السرداب.

كان كل شيء حولها مهماً، رغم تفاهته وصغره ورخصه، إلا أن كل شيء كان واحداً ووحيداً، ولا خيار غيره، لذلك، تُضطر لعشقه. فعندما يعاني المرء من الحرمان، فإن باباً صغيراً من الفرح يُفتح له؛ وتصبح قصص الأطفال ممتعة للكبار، والخبز الحاف يكفيه أن يكون دافئاً ليكون شهياً، رغم غياب الجبن والمربى والعسل.

وفي أقصوصته الرائعة «لا أحد يُراسل الكولونيل» يصف غابرييل غارسيا ماركيز حياة عسكري متقاعد ينتظر كل يوم، لخمس عشرة سنة، راتبه التقاعدي الذي يفترض أن يصله عبر البريد.

يعيش ذلك الكولونيل في قرية صغيرة أيضاً، ويعاني الفقر والأوجاع مع زوجته العجوز، إلا أنه لا يفقد الأمل في وصول الرسالة المنتَظَرة، رغم تهكم زوجته عليه وفقدانها الأمل، ورغم إفلاسه وانعدام الطعام في بيته، إلا أنه يذهب للميناء كل جمعة في انتظار وصول الطرد الموعود.

وعندما مات أحد أقاربه أخرج بذلته الوحيدة واتجه لحضور جنازة المتوفى والقيام بالواجب، وعندما رجع، قامت زوجته بوضع حبوب النفتالين في جيوب البذلة، ثم لفتها بورق جرائد ووضعتها في قعر صندوق حديدي صغير لتحفظها من التلف.

أما الصحف التي يحصل عليها من صديقه الطبيب، فكان يقرؤها صفحة صفحة، وخبراً خبراً، حتى الإعلانات يقرؤها بعناية.. كل ذلك حتى لا يفقد صلته بالحياة.. ولكي لا يفتك به اليأس. كانت عاداته البسيطة تلك خياره الوحيد، وعندما تكون خياراتنا محدودة فإنها تصبح ممتعة، أو ربما هكذا نعتقد، ولكن يكفينا هذا الاعتقاد لنشعر السعادة.

وأتساءل: لماذا لا نشعر بمتع الحياة اليوم؟ لماذا لا تملؤنا الكثرة، ولا تبهجنا النكتة؟ لماذا صار الجنس كثيراً والحُب شحيحاً؟ لماذا صار النوم طويلاً والراحة قصيرة؟ ولماذا لا ننجز رغم كثرة أعمالنا؟ ولماذا صارت الأشياء كثيرة إلا المعاني والغايات صارت قليلة؟

قرأتُ مرة أن رجلاً تقمّص دور مريض مصاب بمرض خبيث ولديه بضعة أشهر قبل أن يموت. وبعد أن دخل في جوّ المرض - نفسياً - شعر بأنه كالذي كانت على عينيه نظارات سوداء داكنة فأزالها ليكتشف بأن الحياة جميلة وعذبة ورائعة.

والغريب أن الرائع فيها ليس ما يملكه، ولكن ما كان يحلم بالحصول عليه، حتى قال إنه تمنى لو أصيب بذلك المرض حقاً.

إن القليل في الحياة يمنحها زخماً؛ والبسيط يمنحها قيمة؛ لأننا حينها فقط ننتبه إليها. تصور لو أنك تعمل طوال اليوم ولا يُسمح لك إلا بشرب كوب قهوة واحد فقط، كيف كنت ستشربه؟ بل، كيف كنت ستنتظره؟ ومهما كانت القهوة مرة أو سيئة، فإنها ستكون بالنسبة إليك أجمل قهوة في الوجود.

عندما تكون الحياة بسيطة، يصبح القليل كثيراً، والرخيص ثميناً، وتحقيق الأحلام المتواضعة إنجازاً عظيماً. وعندما تكون الحياة بسيطة، تصير معانٍ كالكرم، والوفاء، والحب، والعائلة، والأصدقاء، لأول مرة، مهمة وبراقة ودافئة.

يقول الفيلسوف سبينوزا: «إننا لا نرغب بالأشياء لأنها تَسُرُّنا، ولكنها تَسُرُّنا لأننا نرغب بها». عندما نفقد القدرة على الرغبة، تصير حياتنا قاعاً لا قرار له، نهوي فيه بذهول، ومن شدة عمقه نتمنى أن نرتطم بسرعة حتى نرتاح من وحشة المكان ولوعة السقوط.