إذا لم يكن المثقف شاهداً على الناس قائماً بالقسط وعين المجتمع الناقدة للواقع، المستشرفة للمستقبل، وناسج خيوط التغيير، ورسول الحرية، وفارس النضال من أجل العدالة، إذا لم يكن كذلك فإنه يمكن أن يكون أي شيء آخر إلا أن يكون مثقفاً.

وفي الواقع العربي المعقد بتراكم موروث الفساد والاستبداد المسنود بالعمالة للخارج وأجهزة القمع يكاد يختفي من المشهد الثقافي لهذا الواقع البائس المثقف الحقيقي تاركاً البساط للمثقف التابع الخاضع لترويض الترغيب والترهيب الذي يستمريء مخادعة ضميره ليمارس تزوير الحقائق وتبرير الأخطاء والتستر على الجرائم وإدانة الضحايا وشيطنتهم...

وعندما يقبل المثقف الخضوع لهذا النوع من الترويض فإنه لا يفقد القدرة على ممارسة دوره التنويري في تبصير الناس بالأخطاء وتحريضهم على النقد والمشاركة في التغييرفقط، ولا يقف موقفا سلبيا محايدا من هموم الناس و تجاه مسؤولياته الإنسانية في دفع عجلة التغيير إلى الأمام فحسب، بل يتحول إلى النقيض فيصبح أداة تشويش وتشويه لمطالب التغيير والإصلاح وشيطنة دعاة الإصلاح والتحريض عليهم..

وفي هذا الواقع المرير نجد المصلحين والمثقفين الذين يلهمون حركة التغيير في الشارع العربي مكدّسون في السجون والمنافي. فأنظمة الاستبداد حريصة على أن تحبس صوت المثقف الحر الذي يملك زمام المبادرة لتغيير الواقع إلى الأفضل، و يكشف حقيقة الواقع. و كذلك تتعمد أبواق الاستبداد تهميش المثقف الحقيقي وتجاهله بلدو شيطنته لأنه يساهم في صناعة الوعي الناقد ويعري الواقع المزيف ويفسد أساليب  سدنة الاستبداد العربي الذين أدمنوا الإساءة إلى الشعوب العربية واتهامها بأنها غير صالحة للحرية والديمقراطية وهي التهمة الجاهزة التي تشحن بها أجهزة  المخابرات العربية جميع أشباه المثقفين الذين يستسلمون لترويض الترغيب والترهيب.

إن مسؤولية المثقف الحق اليوم تبدو أشبه بالمهمة الاستشهادية فليس من السهل أن تقول كلمة الحق وتعود إلى بيتك آمنا سالماً.

ليس من السهل أن يترجم المثقف العربي التوجيه القرآني " وإذا قلتم فاعدلوا " والتوجيه بأن يكون قائما لله شاهدا بالقسط ولو على نفسه. و لكن مهما كانت المهمة صعبة تبقى هي مسؤوليته الرئيسية، وهو يحمل رسالة ذات مسؤولية أخلاقية. فكم ضرب لنا مثقفون عبر التاريخ أمثلة رائعة للثبات على المبدئ و احترام رسالتهم، فضحّوا بأعز ما عندهم في الدفاع عن كلمة الحق، و حين ماتوا في سبيل تلك الكلمة ظلت كلماتهم حية تحيي ضمير البشرية من بعدهم. فعلى المثقف أن يكون على درجة كبيرة من الإيمان العميق بالله عز وجل ثم برسالته ليؤدي دوره بأمانة ونزاهة وشرف. وأن يستشعر أن سادة  الأحرار و الشهداء رجال قاموا إلى سلطان جائر لينصحوه فقتلهم أو سجنهم.

وعلى المثقف أن يدرك أنه عندما يقبل ترويض الترغيب والترهيب فإنه يقتل نفسه و شخصيته ويبيع ضميره ويعيش في تأنيب نفسي دائم مهما حاول أن يخدع نفسه ويبحث عن المبررات التي تخدر إحساسه الصادق بجريمته في خيانة أمته وشعبه ودينه.