جلست في ذلك اليوم لكتابة مقال عن أوهام الظواهري في إقامة دول لا وجود لها إلا في مواقع الإنترنت، ثم الاستمرار في هذا الوهم إلى نهايته، بإلغاء تلك الدول الوهمية من خلال إعلان صوتي سجله في مكان مجهول. كان شيئاً مضحكاً لدرجة أنني صرفت النظر عن كتابة الموضوع، لأنني وجدت نفسي أكتب عن شيء لا وجود له.وحتى ساعة كتابة هذا المقال، لا يبدو أن «داعش» حقيقية، حتى بعد أن خرجت على طاعة الظواهري، وغيرت اسمها قبل أيام، وأعلن أحد مقاتليها عن قيام دولة الخلافة، ومبايعة أحد الملثمين خليفة للمسلمين، فهي لا تزال موجودة فقط في الإنترنت، وبعض الأزقة هنا وهناك، وما يأتي من العراق غير واضح حتى الآن، بين من يقول إن أجزاء من غرب العراق سقطت بيد «داعش»، ومن يقول إنها بيد عشائر تلك المناطق التي ثارت على الحكومة المركزية في بغداد، ومن يقول إنها بيد تشكيلة متنوعة من المسلحين الذين تجمعهم الرغبة في تحرير مناطقهم من ممارسات حكومة المالكي.
والكلام هنا ليس عن أحداث العراق الأخيرة، ولا عما يتردد حول عمالة تلك التنظيمات الإرهابية لهذه الدولة أو تلك، أو اختراق صفوفها من قبل أجهزة استخباراتية، وإنما عن الوهم الذي يمكن أن يتحول إلى حقيقة حتى لو كان مضحكاً بحجم تأسيس دولة ثم إلغائها، ثم إعلان دولة الخلافة، هكذا بتسجيل صوتي لا أحد يستطيع الجزم بصاحبه ومصدره، واعتبار الكثيرين أن ذلك الوهم حقيقي والتعامل معه كأنه موجود فعلا، لدرجة أنه يمكن أن يبتلع الواقع الموجود على الأرض ويصبح هو الحقيقة.
قد تبدأ بعض الأشياء كوهم وخيال، وقد يُنظر إلى القائلين بها كأنهم مجانين أو غريبو الأطوار، فكيف يمكن تأسيس دولة على يد بعض الأشخاص الملثمين ويقودهم شخص يعيش في مكان مجهول، يصدر أوامره من خلال تسجيلات صوتية؟!
ومع هذا لا ينبغي الاستخفاف بهذه الأفكار، والاعتقاد بأن مقتلها يكمن في جنونها، فكم فكرة بدت غير قابلة للتطبيق لكنها أصبحت واقعاً بعد ذلك؟ ألم تكن أفكار هتلر مجرد هلوسات عنصرية، ثم ما لبثت أن شدّت الملايين إليها، ثم قادت الملايين إلى الهلاك؟! ألم يبدأ «البعث» في سوريا والعراق بثلة من الحزبيين الذين سيطروا على بلدين كبيرين وحكموهما عقوداً طويلة؟! ألم تكن خطب الخميني التي كانت تسرّب إلى إيران عبر أشرطة الكاسيت تتضمن أفكاراً غير واقعية، ومضحكة لمن يعيش في القرن العشرين، ثم تجسدت تلك الأفكار على الأرض، وحولت بلداً كان في طريقه إلى أن يصبح قطعة من أوروبا إلى دولة من القرون الوسطى؟! ألم تكن دولة «طالبان» شيئاً غامضاً في بدايتها ثم أصبحت حقيقة؟!
وبطبيعة الحال، ساعدت ظروف داخلية وخارجية في إقامة القواعد لتلك الأفكار الجنونية حتى شُيّد بنيانها، لكن ما الذي يضمن ألا تساعد «الظروف» فكرة تبدو مضحكة الآن، مثل دولة الخلافة؟!