تنعدم في غزة الأهداف العسكرية مثل القواعد والمطارات الحربية والفرق العسكرية المسلحة، وكل ما يوجد على كل شبر فيها هو الاكتظاظ البشري الذي لا مثيل له عالمياً في الكثافة بالنسبة لمساحة الأرض . الأهداف العسكرية التي تشن عليها "إسرائيل" الحرب في غزة هي المدنيون والبشر العزل . وإذا ما أخذنا المقاومة بعين الاعتبار، وهي توجد حقيقة في صلب النفوس وفي أساس التكوين النفسي لدى الغزاويين والفلسطينيين أكثر مما تتمثل في السلاح الصاروخي أو غيره، فإن المدنيين في نظر "إسرائيل" وفي أفعالهم هم أهداف عسكرية حقيقية . تريد "إسرائيل" قتل المقاومة في نفوس الفلسطينيين واستبعادها كخيار سياسي ظل حياً ومتناقلاً جيلاً بعد جيل لدى الفلسطينيين والعرب عامة .
تشن "إسرائيل" حربها هذه المرة إذن بكيفية مختلفة نظراً لحجم ما تغير في المحيط العربي وما يحدث فيه من حرائق وتدمير وانهيارات كبرى ومنها الابتعاد كثيراً عن القضية الفلسطينية .
استفراد "إسرائيل" بغزة هذه المرة هو استفراد كلي، وهي تشهر طغيانها العسكري ووحشيتها وصلافتها دون خشية من الانتقادات واللوم العالمي وانقلاب النخب الغربية عليها . لا يأبه نتنياهو بما يمكن أن يثار عالمياً حول حملته العسكرية، فهو في النهاية يقتدي بالقوى الاستعمارية الغربية التي حين تقرر هجمة عسكرية- كما حدث في ليبيا- لا تضع اعتباراً للرأي العام العالمي . فما يحدث لغزة على يد المستعمر الاستيطاني الصهيوني ما هو إلا رجع صدى لهجمة استعمارية غربية سابقة ولاحقة . أليس لهذا يتواطأ الإعلام الغربي مع الوحشية الصهيونية وذلك بإغفال عدم التناسب الهائل في القوة وسطوة التسليح والتكنولوجيا وقوة النيران بين غزة (ذلك المحيط المدني) وبين دولة مسلحة حتى أسنانها، ومسلحة بعقيدة القتل والعقاب الجماعي بالموت بالقنابل الصهيونية . يخفي الإعلام الغربي حقيقة الكيان المستعمر وحقيقة الشعب المقاوم . وتبدو غزة في العرض الإخباري الغربي مكافئاً عسكرياً ل"إسرائيل" التي تشن الغارات الصاروخية على شعب "إسرائيل" المسالم .
تعرض محطة ال"إيه بي سي" الأمريكية صور القتلى الفلسطينيين على أنهم ضحايا "إسرائيليون"، وإذا كانت عنصرية الكيان الصهيوني تتكشف أكثر ما يكون في الحروب التي تشنها على العرب حيث توضع في كفة الميزان "الإسرائيلي" الغربي روح واحدة بمقابل آلاف أخرى لا معنى لحياتها وخدش في يد جندي بمقابل قتلى كثر فلسطينيين، فإن الإعلام الغربي يتلاعب بخبث بهذه المعادلة العنصرية مخفياً إياها وكذلك حقيقة "إسرائيل" التي تحمل حقاً إلهياً في قتل المدنيين وإبادة الأطفال من دون أي محاسبة .
ضمن هذه الضبابية والخداع الإعلامي والتواطؤ السياسي الغربي والعالمي تواصل "إسرائيل" طلب رأس المقاومة كمعنى وعقيدة في النفس الفلسطينية والعربية في زمن تاريخي بائس ومعاكس . والدليل على أن سؤال المقاومة هو المطلوب إعادة طرحه وإقصائه هو هذا الإعلام العربي المحيط بنا والذي لا يختلف عن الإعلام الغربي في وقاحته وبروده وتمويهه للحقائق وتجرئه على نشر المقالات التي تقدح في خيار المقاومة مقدمة إياه على أنه خيار العاطفة وليس العقل .
لن تكن المقاومة محل سؤال في تاريخ العرب كله، ولكنها الآن في زمن الاختلال والفوضى تصبح محل أسئلة لا تخشى اللائمة وردة الفعل الشعبية الغاضبة .
ولحسن الحظ، فإن الجرائم الصهيونية ضد غزة قد كشفت معدن الشعوب وتمرس الإنسان العربي في المقاومة النفسية ضد المستعمر والغاصب ومقدار الحنق والثورة الداخلية بإزاء مشاهد القتل على يد المتغطرس المجرم الذي يمارس قمة الطغيان والجبروت العسكري ضد شعب أعزل ومحاصر ومسلوب الكثير من الإمكانات بفعل استهدافه عبر سنوات طويلة .
هذا الطغيان الذي يظهر في قمته وأوجه ما هو إلا درجات انهياره غير المرئية والتي ستتبين في زمن قريب بإزاء شعب عربي فلسطيني لم يكف عن التضحية الأسطورية والمقاومة الشجاعة لقلب المعادلة التي يحاول هذا العدو فرضها .