عادة ما يكون للعلماء والمفكرين والمثقفين والفنانين دور دائم في توعية المجتمع، وإضاءة مساحات مظلمة في فضاءاته. وبعد وجود الصحافة منذ أيام الإمبراطورية الرومانية -بشكلها التقليدي وهو تعليق صحائف من الوثائق أو الأحكام أو القوانين، وغيرها من الموضوعات التي تهم المجتمع- كان النقد وسيلة للارتقاء بالمجتمع، وأسلوباً حضارياً لوضع اليد على مواقع الضعف أو الخلل في أية مسيرة أو أي موضوع يخص حياة الناس.
ومع أن وسائل الإعلام الجماهيري في الأساس قُصد بها الترفيه في المقام الأول، ولكن مع احتياجات المجتمعات إلى أدوات التنوير والارتقاء بالمفاهيم وتطويع وتقويم السلوكيات، اضطرت الحكومات إلى استخدام هذه الوسائل في بث المعرفة والتاريخ والغرائب وجديد العلوم وأساليب الصحة والرياضة والفنون.. وغيرها من المواضيع التي تخدم المجتمع وتساهم في ارتقائه، هذا إلى جانب استخدام تلك الوسائل أيضاً لأغراض الدعاية السياسية والتوجيه في بعض الأحيان.
ولأّنَّ أية مسيرة تنموية -في أي بلد- عادة ما تمرُّ بمراحل تجريبية، فإن الهنّات قد تحدث، والقصور قد يظهر على السطح. وهنا لابد لوسائل الإعلام من أن تتناول تلك الهنّات، وتبرز مواقع القصور -لصاحب القرار- كي يتسنى له التقييم والتحقيق ومحاسبة المُقصّر. وفي هذا الأسلوب حفظ للوقت والمقدرات والجهد. كما أن في هذا الأسلوب أيضاً تقديراً لمدى نجاح المؤسسة أو مديرها أو المشرف عليها من عدمه، وبالتالي اتخاذ القرار المناسب لأن يواصل هذا المدير المسؤول في عمله، أم يؤتى بأفضل منه، إن كانت النتائج في المؤسسة لا ترقى إلى ما تأمله الحكومة.
وعلى الجانب الآخر، فإن حساسية النقد تبدو واضحة لدى بعض المديرين الذين يعتقدون أن الإدارة أو المؤسسة جزء من أملاكهم، ولا يجوز لأي كائن الاقتراب منها! وهنا يحدث سوء الفهم بين الإعلام وتلك الإدارة. بل وهنا تضيع أهداف النقد -إن كان صالحاً وإيجابياً- ويحشد المدير المسؤول «دهاقنة» الإعلام لديه كي يرد على النقد، دونما اعتبار أو التفات لحقيقة مصدر أو سبب تناول وسائل الإعلام لمؤسسته بالنقد.
وفي المنطقة العربية تزداد حدة «شخصنة» النقد، وشعور المسؤول أحياناً بأن الكاتب أو الجريدة تخصه هو بالنقد، وبالتالي ينال هذا النقد عشيرة أو عائلة هذا المسؤول! بأنه غير مؤهل للقيام بواجبه. وهذا خطأ بيِّن لا يجوز لأي صاحب عقل أن يفكر فيه.
وللأسف، فإن بعض المديرين «الضعفاء» يُسقطون -كما في المسرح- النقد النقد الموجه إلى المؤسسة أو إنتاجها الضعيف على الدولة، وهنا تكبر القضية، وتصبح قضية دولة! وقد شهدنا حالات محددة لبعض الشعوب العربية على سبيل السذاجة، حيث إنك لو قلت لأحدهم: بلادكم فيها زحمة سير! لقال عنك: إنك «تسبُّ» البلد! بل إن بعض غير العقلاء ممن لا يستطيعون ملء كراسيهم في الإدارات والهيئات غالباً ما يُفسرون النقد الإيجابي والبناء على أنه حقد وعمل ضد البلد، وأن صاحب النقد يتعامل مع جهات خارجية، وهكذا تطول القائمة حتى يصل الكاتب -المخلص لوطنه الحريص على نجاح مؤسساتها- إلى دهاليز «المرمطة»، وقد «يكفر» بالساعة التي دعته لأن ينتقد من أجل المصلحة العامة، ومن أجل أن يكون إنتاج مؤسساته الوطنية راقياً، حسبما خطط له مسؤلو البلد.
وللأسف، فإن بعض المديرين - يتم تعيينهم لأسباب سياسية وليست مهنية- شديدو الحساسية ضد النقد، حتى لو جاء هذا النقد من شخصيات تفوقهم خبرة وتأهيلاً علمياً وتخصصاً في المجال. وبدلاً من أن يُشكر الكاتب المتخصص والعارف بشؤون التخصص الذي يتحدث عنه، ويطلب المدير المسؤول مشورته أو مساعدته في شؤون العمل، نجد هذا المدير «يوغر» صدور الآخرين لوقف هذا الكاتب أو توجيهه بعدم التعرض للمؤسسة هذه بالذات. وبذلك يسكت قلم الكاتب، وتستمر الأخطاء ويتراجع الأداء، خصوصاً في المجالات الفنية والمتخصصة مثل الإعلام والثقافة والفنون والأعمال الإبداعية عموماً. وفي هذه النقطة بالذات، فقد خلق الله الشر متفاوتين في الموهبة والإدراك والتفكير وسعة الأفق، وليس بالضرورة أن كل من تساعده الأقدار أو الظروف بأن يكون مسؤولاً عن هيئة أو مؤسسة متخصصة يكون عارفاً أو يمتلك الموهبة لمعرفة كل جوانب العمل فيها! وفي هذه الحالة لابد له من الاستعانة بالمتخصصين من أبناء البلد. ولئن كانت الأوضاع السياسية -في العالم العربي- لا تسمح بتطبيق مبدأ «تكافؤ الفرص» إلا في نطاق ضيق، مهما كانت مساحات الإعلان عن هذا المبدأ، وذلك لضرورات سياسية واجتماعية، فإن على الهيئات المتخصصة جذب المتخصصين من أبناء البلد، والاستماع إليهم، حتى لو كانت لديهم نظرات مختلفة عما يدور في ذهن مدير الهيئة أو المؤسسة، لأن تباين وتعدد وجهات النظر يُثري قضايا النقاش ويقوّم الأداء.
كما أن المؤسسات والهيئات الإبداعية تحتاج من وقت لآخر إلى تجديد الدماء، ولا يمكن لإنسان أن يُصدق أن يبقى مدير لإدارة متخصصة -وهو حصل عليها بالتقادم لا بالمعرفة ولا الموهبة- لأكثر من ثلاثين عاماً في موقعه! وخصوصاً إن كان لا يقرأ ولا يطلع على ما يجري في العالم من تطورات في مجال تخصصه، بل ولا يقوم أحدهم بتقييم الأداء في إدارته. كما أن تجديد الدماء لا يعني التغيّر من أجل التغيّر. بل يعني أن يكون القادم الجديد أكثر علماً وتأهيلاً ممن سبقه، كي يستطيع التعامل مع الجيل «المخضرم» الذي خبر العمل عبر سنوات طويلة ونال من الخبرات كثيراً عبر الدورات التدريبية والممارسة اليومية. كما أن «الاجتثاث» -بكافة أنواعه- لا يعني تقدم المؤسسات والهيئات بقدر ما يتسبب في تردي الأداء وتراجع أعمال تلك المؤسسات.
إن النقد الإيجابي ضمانة لاستمرار العمل الناجح، فلا تتأففوا من نقد المختصين والمؤهلين، ولا تعتبروهم «متحاملين» أو يعملون ضد بلدانهم. تخلصوا من حب «الأنا» المتضخمة، ومن «نظرية المؤامرة» التي تحجب عن أعينكم نور الحقيقة.