قبل أن تتجرأ عليه العناصر الإرهابية مؤخراً من خلال ما كان يعرف بتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) وما يسمي نفسه حالياً بـ«دولة الخلافة الإسلامية»، نظرت دول مجلس التعاون الخليجي إلى ما يحدث في العراق على أنه شأن داخلي ليس من الحكمة التدخل فيه، لكن ما قامت به «داعش» يعتبر أمراً جللاً وتخطياً لخطوط حمراء، وتهديداً مباشراً لأمن واستقرار دول المجلس على المدى المتوسط والبعيد، ولا ينبغي التقليل من شأنه أو النظر إليه على أنه يحدث بعيداً عن حدود وأراضي دول المجلس، أو أنه أمر آني وعابر سيزول من تلقاء نفسه.
إن ما يحدث هو عمل منظم ومقصود، له تقاطعات إقليمية ودولية وينفذه إرهابيون مدربون تم إعدادهم على أعلى مستوى ممكن، وهو تجاوز لكافة القوانين الدولية والأعراف السائدة في المنطقة، ويخلق وضعاً جديداً تمارس من خلاله جماعة إرهابية العنف والترويع.
إن ما حدث حتى الآن وما تمارسه «دولة الخلافة» المزعومة هو منعطف استراتيجي خطير وعميق الأثر يتطلب من دول المجلس تغيير نظرتها إليه ومواقفها منه، فأي تغير استراتيجي يحدث يتطلب من الأطراف المتأثرة به أن تغير استراتيجياتها أيضاً، فـ«داعش» تنظيم لا هوية حقيقية له ويمارس القتل والإرهاب كمنهج أساسي في عمله، وكل ما يعرف عنه هو أنه ينوي إقامة «دولة خلافة» في المنطقة تتكون من أراضي سوريا والعراق كبداية، ومع تغيير اسمه مؤخراً يتضح أن الهدف أبعد من ذلك بكثير.
إن النقاش الذي يدور حالياً في أروقة دول المجلس حول ما الذي يمكن فعله تجاه «داعش» أو تجاه الشأن العراقي بشكل عام ينبغي ألا ينحصر في الاعتبارات التكتيكية والسياسية فقط، خاصة على صعيد أمنها الداخلي، فهذه النقاشات مهمة، ولكن الأهداف الاستراتيجية الخاصة بعدم انتقال العدوى الإرهابية إلى داخل حدودها حتمية أيضاً ومُلحة. إن الجهود التي قامت بها دول المجلس حتى الآن انحصرت في المساعي الدبلوماسية والتوصل إلى حلول سلمية بين الأطراف المتقاتلة من مكونات الطيف العراقي، وهي تجري على استحياء وتردد.
وهذا التردد والحذر الشديد مرده إلى أن العراق كان هو المسرح الذي دارت على أراضيه حتى الآن ثلاث حروب عبثية مدمرة منذ عام 1980، أثرت بأشكال مباشرة على الساحة السياسية للخليج العربي والمنطقة العربية وجوارها الجغرافي، وبصور سلبية شتى آخرها الخطر القائم حالياً ويهدد بتقسيم العراق إلى دويلات طوائف يمكن لعدواها أن تنتقل إلى دول عربية وإقليمية أخرى، أهمها سوريا وإيران اللتان يمكن لهما أن تواجها نفس المصير، سوريا في القريب العاجل وإيران ولو بعد حين رغم توهم ساستها أن بلادهم محصنة ضد ذلك.
وعلى أية حال فدول المجلس مطالبة الآن وأكثر من أي وقت مضى بأن تكون أكثر يقظة وانتباهاً وحنكة وذكاء وربما دهاء، وأن تقوم بتحصين جبهاتها الداخلية، كل منها على حدة في مرحلة، وجماعياً في مراحل أكثر تقدماً.
تحصين الجبهة الداخلية واللحمة الوطنية شأن استراتيجي مُلح يجب أن تتماشى معه تقوية الارتباطات العسكرية والأمنية والسياسية الداخلية والخارجية. إن المطلوب هو أن يحدث ذلك بدرجات أعمق مما نسمع به الآن من تحرك ضد التطرف الديني والإسراف في الحديث النظري حول مكافحة الإرهاب، ومرد ذلك هو أن الحروب الأهلية الدائرة الآن في أكثر من دولة عربية تعمل كجاذب للشباب الخليجي يغويهم بالذهاب إليها والانخراط في حروبها.
لذلك فإن الاختبار القوي لتدخل دول المجلس فيما أحدثته «داعش» في العراق، يأتي من التعامل معه بحزم انطلاقاً من الجبهة الداخلية وحماية شبابنا من الانزلاق خلف الشعارات المرفوعة.