الواقع الكويتي «يحتاج إلى علاج وإنعاش»، ومن بين ما تسبب فيه هذا الواقع تنفير الكفاءات الوطنية من تحمل أي مسؤولية وزارية، مما فاقم الأزمة الإدارية والحكومية.
لماذا يعم الاستياء معظم الأوساط في الكويت من الأداء الحكومي؟ ولماذا تفشل الحكومات المتوالية، والإنفاق المالي الهائل على مختلف المجالات المعيشية، وكل الجهد السياسي والاقتصادي والإعلامي المبذول على المستوى الحكومي خاصة، في إقناع المنتقدين وإسكاتهم؟ من طرائف ما تنشره الصحافة الكويتية في مجال التذمر، ما يرويه الكاتب والدبلوماسي السابق أحمد الدواس إذ يقول: «حدثني صديق أنه أثناء تقديم الكويت مساعدتها الإنمائية لإحدى دول شرق أفريقيا، وكان ذلك في نحو عام 2002، قال له المسؤول الأفريقي: «هذا شيء جميل أنكم تقدمون لنا مولدات كهربائية مع أنكم تعانون انقطاع الكهرباء» (الوطن 23-6-2014). ويمضي الكاتب قائلاً: «فشل الحكومات السابقة في الكويت لا يقتصر على مجال الكهرباء، بل إن الحكومة لا تفكر ولا تستعين بتجارب الأمم، وضعنا المحلي سيئ في جميع المجالات مع أننا نمتلك الكثير، ولا ينقصنا سوى الضمير الحي والإخلاص والإلمام بالتجارب الناجحة للدول الأخرى». من المسؤول عن تدهور الأوضاع؟ وأين تقف الحكومة وما دور المجلس أو البرلمان؟
الواقع السياسي الذي نعيشه في دولة الكويت، يقول وزير التنمية الكويتي الأسبق عبدالوهاب الهارون، يعاني فيه الجميع من عدم استقرار الحكومات المتعاقبة، إذ قلّ الإنتاج، ذلك أن «الوزير بات يشعر فور توزيره بأن مدة عضويته في مجلس الوزراء مؤقتة وقصيرة، وإذا استطاع أن يحدد مكامن الخلل وانطلق إلى الإصلاح والتطوير، يفاجأ بإخراجه من الحكومة.. هذا فضلاً عن عدم وجود خطة أصلاً للحكومة». وأضاف الوزير الهارون ضمن الحوار الذي أقامته صحيفة الوطن بين ثلاثة وزراء سابقين، تحت عنوان «اتهامي» وهو: «الحكومات المتعاقبة.. إلى أين أوصلت الكويت؟»، فقال: لقد بدأ هذا التدهور أو «الواقع غير الصحي» منذ ما بعد التحرير تقريباً، سنة 1991. «فقبل الغزو العراقي كان كثير من الوزراء يمكثون خمسة عشر عاماً وحتى عشرين عاماً، فوزير الصحة مكث ستة عشر عاماً ووزير المالية بقي على رأس وزارته لعشرين عاماً ووزير التجارة استمر لعشر سنوات».
لماذا لا تستقر الحكومات اليوم؟ السبب، يقول الهارون: «هو التغيير الذي حصل على صعيد المطالب الشعبية، فما حدث من فساد وتطاول على المال العام جعل الناس تثور على خلفية العقود المبرمة لإعادة بناء الكويت، ولهذا سيطرت قضية الرقابة وباتت هاجساً، وهنا بدأ الاختلال في العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وبدأت قضية الاستجوابات والرقابة وانحرفت المساءلة عن مسارها الصحيح وتحول الأمر إلى ابتزاز وتكسب، كما أن الإدارة الحكومية تغيرت بعد التحرير بحيث صار هناك ترهل في أداء الموظف، وزاد الترهل بمرور الوقت خصوصاً مع عدم استقرار الوزراء في مناصبهم».
وزير التجارة والاقتصاد الأسبق عبدالوهاب الوزان المشارك في حوار الوطن مع الهارون، أشار إلى أن «الغزو أثر على التركيبة النفسية للشعب الكويتي، بحيث تغيّرت الرؤى والأفكار والتوجهات، ولهذا أصبحت الكويت غير مستقرة نفسياً، ولجأ الكثيرون إلى شراء منازل وأراض خارج الكويت». ولكن هل تردي الأداء الحكومي سببه انتكاسة نفسية الإنسان الكويتي، رغم مرور أكثر من عشرين عاماً على الغزو والتحرير؟ ولماذا لم تستطع الحكومة رغم ما بيدها من إمكانيات وأموال، أن تحقق نقلة نوعية في الأداء الحكومي وفي بلورة وتنفيذ رؤية تنموية يطالب الجميع بها؟
علة الحكومة في تحليل الوزان أقدم وأخطر، يقول: «المشكلة وفق ما أراه أنه لم تكن هناك قناعة حقيقية من قبل السلطة بضرورة إيجاد ديمقراطية على أسس صحيحة ووفق المنصوص عليه في الدستور». وعرض الوزان عناصر شكه في السلوك الحكومي على امتداد سنوات ممتدة، لجأت فيها الحكومات إلى أساليب غير ودية إزاء النظام الدستوري الوليد «منها التزوير الذي شاب الانتخابات البرلمانية خلال حقبة السبعينيات وما حدث في مجلس 81 وحل مجلس 85، ثم تعرضنا للغزو الصدامي.. نعم نحن في واقع غير صحي ومريض».
الواقع الكويتي أضاف الوزان «يحتاج إلى علاج وإنعاش»، ومن بين ما تسبب فيه هذا الواقع تنفير الكفاءات الوطنية من تحمل أي مسؤولية وزارية، مما فاقم الأزمة الإدارية والحكومية، المنصب الوزاري بات طارداً والخطاب السياسي تغيّر، والكفاءات التي تحترم نفسها تبتعد عن هذا المنصب، في حكومة بلا برنامج أو منهج، حيث «يجد الوزير نفسه في أغلب الأحيان يعمل منفرداً وتبقى المشكلة الأساسية في عدم وجود فكر ممنهج عند الحكومات السابقة، فالوزراء لديهم اجتهادات شخصية وليست اجتهادات مؤسسية، وهذا ما أوصلنا إلى هذا الواقع المرير».
كان وزير الأوقاف الأسبق ووزارات أخرى، أحمد باقر ثالث المشاركين في الحوار، وفي محاولة اكتشاف أسباب «الواقع الكويتي» المرير، كما وصفه الوزير «الوزان»، الوزير باقر بدأ حديثه بملاحظة أساسية قائلاً: «ليس عندنا تقاليد راسخة، وأساس في تشكيل الحكومات، بينما في كل البلدان الديمقراطية تكون للحكومة أغلبية في البرلمان وإلا فإنها لا تستمر».
وفي البلدان المتقدمة «يأتون بوزراء من البرلمان لديهم خبرة سياسية، وهذا في الغالب ما لا يحدث عندنا، وقد رأينا من يتم توزيره فور فوزه بعضوية مجلس الأمة للمرة الأولى، إن مثل هذا الوزير يأتي ويتعلم من خلال عمله كوزير، ويفترض أن يترك لكي يتعلم أولاً من خلال عمله البرلماني، وأيضاً هناك بطء شديد جداً في الإجراءات الحكومية، الأمر الذي جعل المواطن يقارن بين الإنجاز عندنا وفي بلدان قريبة منا.
ولكن كيف يمكن أن تكون للحكومة أغلبية برلمانية في ظل غياب نظام للأحزاب في الكويت؟ هذا ممكن، في اعتقاد الوزير باقر: «يمكن لمن يشكل الحكومة أن يختارها من أعضاء مجلس الأمة، بحيث تكون للحكومة أغلبية عند التصويت». وأبدى كذلك شكوكه في الخطط التنموية للبلاد متسائلاً: «إن تعدادنا عام 2030 سيبلغ مليونين ونصف المليون، فمن أين سنأتي بالوظائف، وكيف سنوفر المساكن والخدمات التعليمية والصحية؟ النظرة للمستقبل غائبة والتعامل فقط مع الواقع، هذا بالإضافة إلى الاستسلام للضغوط، وهذا واضح جداً، فنحن نرى وزيراً ما، يأتي ويجتهد، فتكون النتيجة أنه يحارب من بعض المتنفذين أو المفسدين أو بعض التجار، هذا الوزير أحياناً يُحارب من بعض الوزراء، والخلاصة لابد من أغلبية برلمانية للحكومة».
وجاء أخيراً دور وزير الأوقاف والعدل الأسبق، حسين الحريتي الذي بدأ كلامه بالإشارة إلى «أن الصراع موجود بين مجلس الأمة والحكومة منذ صدور الدستور، والآن واقعنا مؤلم ومخيف، فهناك طوابير من الخريجين العاطلين والآلاف ينتظرون دورهم في الرعاية السكنية، وهناك تردٍ في الخدمات التعليمية والصحية، واقعنا مؤلم وهو نتيجة للصراع السياسي بين السلطتين التنفيذية والتشريعية».
لابد أن يتسم القرار الحكومي بالإرادة والسرعة والتناغم، أضاف الوزير الحريتي، وأن تكون القرارات مدروسة.
واشتكى الوزير الأسبق من «أن المسؤولين الذين كانوا يحضرون اللجان البرلمانية المختصة التي ناقشت القوانين لم يكونوا ملمين بتفاصيل مدى الحاجة الفعلية لها، ثم بعد ذلك يُفاجأون بالواقع الذي يحتم ضرورة تعديلها».
هذه ملامح من تصور وزراء كويتيين في حكومات سابقة للواقع الحالي الذي وصفوه بأنه مؤلم ومخيف.
وسنرى ما يصفون لهذا الواقع من علاج.