في الأسبوع الماضي كتبت عموداً بعنوان "وماذا عن الربيع الاقتصادي؟" بينت فيه أهمية موضوع الاقتصاد كجزء مكمل لموضوع السياسة في مسيرة ثورات وحراكات الربيع العربي الذي، مهما كثرت عثراته الحالية، يحتاج لأن يتعامل شباب الأمة العربية معه من خلال قول شهير للثوري الإيطالي المعروف أنطونيو غرامشي: نحتاج لأن نملك تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة .
ولنذكّر أنفسنا يومياً بأن تفاؤل إرادة شباب أحداث الربيع العربي هو الذي فجر ثورات وحراكات ذلك الربيع تحت شعار شاعر تونس العظيم أبو القاسم الشابي: إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر . والقدر هو صمود الإرادة المتفائلة لشباب الأمة في وجه تشاؤم حسابات العقل وذلك من أجل اقتحام أسوار المستقبل، طال الزمن أو قصر .
إذاً هناك مكان لمناقشة صورة المستقبل لمسيرة نضالات هذه الأمة العظيمة، ولنعد إلى موضوع الاقتصاد، الذي هو من أهم أسباب التراجعات في الحياة السياسية العربية . ولقد اخترنا أن يكون أحد المداخل لبناء اقتصاد عربي مدخل إصلاح اقتصاد دول مجلس التعاون الخليجي بسبب امتلاكها لريع نفطي - غازي هائل . وطالبنا دول المجلس بإجراء مناقشات مجتمعية عامة لوضع منطلقات أساسية مفصلية لاقتصادها، بعيداً عن الفكر الاقتصادي الذي تنادي به المدرسة الليبرالية الجديدة، مدرسة الرأسمالية العولمية المتوحشة الرافضة لأي تنظيم أو كبح سياسي وأخلاقي .
في اعتقادي أن النقاشات يجب أن تحسم الجوانب التالية، فكراً وممارسة وأولويات .
أولاً: إن الاقتصاد ليس فقط عبارة عن سوق وتبادل سلع، وهو موضوع لا يمكن أن ينفصل عن التفاعل مع السياسة . والمدرسة التي تدعي بأن الاقتصاد علم مستقل بقوانينه الذاتية، تماماً مثل علم الفيزياء أو علم الكيمياء، ثبت بطلان إدعاءاتها تلك من قبل الكثير من علماء الاقتصاد أنفسهم وعرتها إلى حدود الفضيحة أزمة العالم المالية والاقتصادية منذ عام 8 . .2 .
ثانياً: إن منطلق اقتصاد دول مجلس التعاون، وبالتالي بقية أقطار الوطن العربي، يجب أن يركز على أن يكون اقتصاد إنتاج لسلع مادية ومعرفية وخدمية قبل أن يكون اقتصاد استهلاك . إن اقتصاد الإنتاج سيتطلب التركيز على حقول الزراعة والصناعة والتكنولوجيا وإنتاج المعرفة ورفع كفاءة كل أنواع الخدمات ووجود تعليم إبداعي ونشاطات بحثية جادة رفيعة المستوى .
ثالثاً: إن موضوع الاقتصاد أهم وأكبر من أن يترك لمن يسمُون أنفسهم خبراء اقتصاد وبالتالي فإن ممثلي المواطنين في البرلمانات وممثلي العمال في النقابات وأجهزة الحكم المعنية هم معنيون أيضاً ويجب أن تكون لهم كلمة . من هنا فإن تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي، لوضع ضوابط له ولمراقبته ولحمايته من المفسدين، ضروري . وقد أثبتت الأزمة المالية العالمية الأخيرة بطلان مدرسة أمثال ملتون فريدمان في شيكاغو وهايك في النمسا وغيرهما من عتاة مدرسة عدم تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي .
رابعاً: إذا كنا نتفق على ضرورة تدخل الدول فإن دول مجلس التعاون مطلوب منها وضع إجراءات حمائية لكل مؤسساتها الاقتصادية الوطنية في فترة نشوئها وطفولتها . هنا يجب التذكير بأن كل دول الغرب والشرق الصناعية التي نراها أمامنا اليوم مارست السياسات الحمائية الصارمة لحماية زراعتها وصناعتها الوطنية منذ عقود طوال . ولم ترفع الحماية إلا بعد أن شبت مؤسساتها الإنتاجية عن الطوق وأصبحت قادرة على المنافسة في الأسواق الدولية .
إن إملاءات منظمة التجارة العالمية ومؤسسات المال العولمية وحكومات الدول الرأسمالية المتقدمة يجب أن ترفض وتجري مراجعة شاملة لهذا الموضوع الخطير . فمصالحنا الوطنية والقومية يجب أن تعلو فوق تلك الإملاءات .
خامساً: لن تكتمل الصورة إلا بوضع تصور اقتصادي استراتيجي عن إدماج اقتصاد دول المجلس في الاقتصاد العربي العام، كاستثمارات عقلانية كفؤة في انتقال الاقتصاد العربي ككل إلى أن يكون اقتصاداً إنتاجياً - معرفياً متكاملاً مع بعضه بعضاً، مواجهاً للعالم ككتلة متناغمة، معتمداً إلى حدود كبيرة على قواه الذاتية، رافضاً للإملاءات الخارجية .