هناك أشخاص في المحيط الذي نتحرك فيه، قد تكون من أفراد الأسرة، من أصدقائنا، من العاملين في المنزل، من الجيران، أشخاص كثيرون بلغات مختلفة، بوجوه متمايزة، بأسماء بعضها لا يغيب وبعضها لا تحفظه الذاكرة، بعضهم دخل حياتك، ولم يخرج، وبعضهم دخل وسيخرج، وبعضهم كان درساً كبيراً لن تنساه أبداً، لكن أولئك الذين صنعوا علامة فارقة في حياتك يستحقون دائماً أن تتحدث عنهم، أو تحدث عنهم، أو تتأمل سيرتهم في حياتك، وما أكثر هؤلاء الذين يشكلون حياة حقيقية أكثر منها مجرد تجربة عابرة، حياة قائمة على نظرية وفكرة ومنظومة قيم وأخلاق وثقافة، لست وحدك المثقف أو الفاهم، أو صاحب الشهامات فقط ،لأنك الأكبر أو الأغنى، أو سيد المنزل أو صاحب العمل - كما يظن البعض -المزارع البسيط الذي يأتي لمدة ساعة يومياً للعناية بحديقة البيت، أو تلك الممرضة البسيطة التي كانت ترعى أحد أفراد عائلتك، لديها من الأبعاد العميقة في شخصيتها ما يستحق أن تنصت وتتأمله، وذلك السائق، وتلك الخادمة التي جاءت لمنزلك منذ سنوات مراهقتها، ولازالت ترعى حق العشرة رغم أنها بلغت من العمر الكثير، ورغم أنها غادرتك.
في حياتنا الكثير مما يستحق أن نفرح به وله ولأجله، وأن نحوله إلى مصدر للطاقة والسعادة لو أننا أجدنا التأمل، لو أننا ما فرطنا في هذه الفضيلة الرائعة، فضيلة الإنصات لقلوب الناس حولنا، فأحياناً عندما تصاب بالإنهاك الجسدي والروحي بسبب تكاليف الحياة وأعبائها وصدماتها سيبزغ لك من بين أركام الغيوم الكثيفة موقف، أو وجه، أو كلمة ما من حيث لا تتوقع، سيشعرك بأن الخير الذي وضعته ذات يوم في رصيد الأيام عاد إليك وقت الحاجة مضاعفاً، تلك نظرية صحيحة مائة في المائة، تحدث عنها سريعاً الروائي باولو كويللو في «الظهير» حين قال، إننا حين نقدم مساعدات، أو وقفات، أو نكون مع أشخاص معينين في مواقف هم يحتاجونها، فإننا نكون كمن يضع رصيداً في بنك الخدمات، وأن هذا الرصيد لا يضيع، لكنه يظل محفوظاً لك، وستجده حين تحتاجه، نظرية بنك الخدمات توافق ما لدينا كمسلمين من فكرة أن الله يضاعف الأعمال الحسنة للإنسان، وأن الجزاء من جنس العمل.
كان يعمل لدينا مزارع آسيوي شاب ونشيط جداً، بالكاد نسمع صوته حين يتحدث، لكنه برغم فقره وحالته المتواضعه، إلا أنه كان دائماً ما يستوقف أهل المنزل بذلك السلوك الرفيع، فحين يدفع له بعض من أموال الزكاة والصدقات، كان يدفع يده بعيداً علامة الرفض، كان ينتفض بشدة مبتعداً ومردداً «أنا لست مسكيناً، أنا أعمل، الزكاة للمساكين الذين لا يجدون ما يأكلون»، لقد غادرنا «مشتاق» منذ سنتين وربما أكثر، وجاءنا من يملك أكثر منه صحة وشباباً ومالًا ربما، لكنهم جميعاً كانوا لا يملكون عقلية مشتاق وعظمة نفسه، ولا زلت أتذكره كلما اختلفت مع والدتي فيمن يستحق الزكاة، ومن لا يستحقها، فالزكاة فريضة لا تقبل الاجتهاد الشخصي، وليس فيها مكان للمزاج والهوى، يا إلهي كم كان ذلك المزارع كريماً في قرارة نفسه أكثر من بعض الأغنياء الذين يوزعون الزكاة بالملايين رغم أنه لا يتقاضى من عمله سوى دراهم معدودة.
عملت في بيتنا فتاة منذ أكثر من 30 عاماً، كبرت عندنا، وكبر صغار العائلة معها، ربتهم كأمهم وصارلوا حين كبروا يعاملونها كفرد من العائلة، حين قررت أن تغير طبيعة عملها ساعدتها والدتي في ذلك، الآن تعمل في مؤسسة دبي للمواصلات، حازت جوائز، ومنحت شهادات تكريم، وحين يسألونها كيف أصبحت تتقنين العربية، ولديك هذا القدر من الصرامة والدقة، وعدم التساهل تجاه القانون كانت دائماً تجيب الفضل للبيت الذي تربيت وعملت فيه، وبلغتها البسيطة كانت «نسيم» تقول دائماً عن والدتي «ماما علمتني أن القانون هو الحياة، وأن الذي يمشي «صح» يعيش طوال حياته مرتاحاً».