تذرعت إسرائيل بأن «حماس» وراء اختطاف ثلاثة مواطنين إسرائيليين في الضفة الغربية قبل ثلاثة أسابيع، واعتبرت قتلهم جزءاً من سياسة حركة «حماس» للجوء إلى الخيار المسلح كوسيلة بديلة للمفاوضات المتوقفة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، غير أن مثل هذه الذرائع لم تقنع أحداً بصدقيتها. وكذّبها أصدقاء إسرائيل في أوروبا قبل أعدائها، لأنها لم تقدم دلائل دامغة عن مسؤولية الحركة أو منسوبيها عن مثل هذا العمل، مع اعتبار القانون الدولي لأي مستوطن إسرائيلي في الأرض الفلسطينية، هدفاً مشروعاً لأنه يمثل جزءاً من كيان استعماري مغتصب فوق أرض محتلة. وبناء على مثل هذا الاتهام، قامت إسرائيل بسجن أكثر من 600 شخص في الصفة الغربية معظمهم أعضاء في البرلمان الفلسطيني ويمثلون حركة «حماس» فيه، كما قام المستوطنون الإسرائيليون أيضاً بقتل الفتى الفلسطيني محمد أبو خضير في الرابع من يوليو الحالي. وعلى إثر ذلك تصاعدت العمليات العسكرية بين قطاع غزة وإسرائيل، ووصلت هذه العمليات إلى حالة حرب مفتوحة من قبل إسرائيل، استخدمت فيها أسلحة محرمة دولياً، مثل غاز الفوسفور الأبيض والقنابل المسمارية، خاصة أن غاز الفوسفور يستخدم كسلاح شديد للحرائق التي لا يمكن إطفاؤها بالماء، وهو ممنوع تحت بنود معاهدة الحد من الأسلحة الكيماوية، كما أن القنابل المسمارية مصممة أيضاً لإلحاق الأذى بأكثر قدر من السكان المدنيين، بحيث تخترق هذه المسامير أجسادهم.
غير أن السبب والهدف الرئيس للغزو الإسرائيلي للقطاع، هو القضاء على اتفاقية المصالحة الوطنية بين حركتي «فتح» و«حماس»، وإنشاء منطقة عازلة بعرض كيلومتر واحد على الأقل في قطاع غزة لمنع أي محاولة لقنص الجنود الإسرائيليين أو اختطافهم. غير أننا حين ننظر في الهجمة الإسرائيلية الشرسة على القطاع، نرى أنها جزء من حرب إسرائيلية لم تتوقف ضد الفلسطينيين منذ عام 1948 وحتى الوقت الحاضر، فكلما طوّر الفلسطينيون جزءاً من قوة عسكرية مسلحة ولو كانت صغيرة، يسعى قادة تل أبيب إلى خنقها في مهدها، ويحاولون تركيع الفلسطينيين لمشيئتهم، غير أن هذه الحروب، خاصة في قطاع غزة الفقير والمحاصر والمكتظ بالسكان، جعلت الفلسطينيين يشعرون بأن ظهورهم إلى الحائط وليس لديهم ما يفقدونه.
ومن ناحيتها، حاولت حركة «حماس» في بداية الأمر أن تظهر بأنها قوة يجب أخذها في الحسبان ولا يمكن تهميشها، أو تجيير قرارها السياسي بيد أي دولة عربية في مرحلة من مراحل المفاوضات بين بعض قيادتها وقادة عرب، وحاولت أن تظهر أنها لا تعترف بالرئيس الفلسطيني، وأن قرارات الحرب والسلام والمفاوضات الثنائية مع إسرائيل هي قراراتها وحدها، وليست قرارات السلطة الفلسطينية، التي أصبحت «حماس» جزءاً منها بموجب بنود المصالحة الأخيرة.
ولم تتوقع إسرائيل ولا حكومة نتنياهو أيضاً أن يكون هناك رد فعل دولي شعبي ضخم ومتعاطف مع الشعب الفلسطيني في غزة، فقد قامت مظاهرات صاخبة في أكثر من 38 مدينة امتدت من طوكيو وجاكارتا إلى إسطنبول وشيكاغو، وصولاً إلى مدن بوليفيا وتشيلي، وهذا التعاطف العالمي يتزايد مع القضية الفلسطينية ومع الشعب المحاصر والمقتول في عزة، والذي لم يعترف به الزعماء السياسيون في الغرب، لأنهم لا يجرؤون على قول الحقيقة، وإن كانت شعوبهم قد شجبت هذا العنف وأدانته، ووصل الأمر بعدد من المثقفين اليهود إلى نشر إعلانات في الصحف الرئيسية -ومنهم نعوم تشومسكي- تُدين الحرب القذرة التي تشنها إسرائيل ضد المدنين في عزة. وعلى رغم انخراط وسائل الإعلام الغربية في خدمة «البروباجندا» والدعاية الإسرائيلية سواء في (CNN) أو (PBS) (BBC) الا أن «التويتر» وغيره من مواقع التواصل والإعلام الجديد أتاحت للناس الاطلاع على المأساة، كما يعيشها الشعب الفلسطيني، وكان رد فعل الرأي العام الدولي عارماً ومديناً لهذه المجازر حتى أن بعض الإعلاميين الأحرار من اليهود انضموا إلى صفوف المنددين -مثل جون ستيوارت- ومثله فعلت وزيرة خارجية الولايات المتحدة السابقة مادلين أولبرايت، وهي أيضاً من أصول تشيكية يهودية، إلا أنها أدانت عنف حكومة نتنياهو، وقالت إن سبب هذه الحرب، هو معاندته، وعدم قبوله لحل الدولتين، وإحلال السلام في الأرض الفلسطينية.
ولاشك أن إسرائيل التي خسرت الحرب الإعلامية ستسعى لكسب الحرب العسكرية، فعلى رغم عدم قبولها لوقف إطلاق النار -حتى وقت كتابة هذا المقال- فستتأكد من أن الوضع القائم قبل الحرب، أي الحصار الكامل للقطاع بحرياً وبرياً سيستمر كما كان عليه من قبل، وهو ما سيقود مجدداً إلى حرب أخرى خلال عام أو عامين، كما كان حال الحروب الثلاث ضد غزة منذ عام 2008 وحتى الوقت الحاضر.
وبمعنى آخر، فإن الحصار على غزة وعلى الضفة الغربية المحتلة يجب أن ينتهي، وإذا كان المجتمع الدولي جاداً في الضغط على إسرائيل، فإن احتمال إعادة إحياء مفاوضات السلام المجمدة، قد يقود إلى حل جذري بتشكيل دولتين، وهو ما لا تريده إسرائيل، ما دام الساسة الغربيون يقفون بشكل أعمى خلف نتنياهو وزمرته المجرمة.
وبعد ستين عاماً من النكبة الكبرى في عام 1948 بدأنا نرى ضوءاً خافتاً وضعيفاً بين المثقفين والشباب الغربين، وحتى بعض اليهود أنفسهم، ووعياً بأن الاحتلال لا يمكن أن يدوم، وحتى ولو كانت الدولة المحتلة تملك الطائرات المقاتلة، والأسلحة الكيماوية والنووية، فمشيئة البشر وإرادتهم ستبقى أقوى من بطش تلك الأسلحة.
ويجب على الفلسطينيين، بدورهم، أن يتحِدوا ويتفقوا على قيادة سياسية موحدة، فبدون تلك القيادة والوقوف خلفها، فلن تكون لهم كلمة، وسيحاول العدو أن يكسر شوكتهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. وعيداً لكم وللفلسطينيين أسعد من هذا العيد.