في شهر رمضان المبارك من كل عام تستضيف دولة قطر جمهورا من العلماء أتباع مدرسة أهل الحديث، ومدرسة علم الكلام، وتعج بهم مساجد وجوامع قطر وكذلك مجالس الأعيان والوجهاء. ما أعظمه تقليد وما أعظمها سُنّة سنها أهل قطر وقيادتهم السياسية على أنفسهم.
(2)
اتصل بي هاتفيا الأخ خالد القفاري رفيق طريق وجليس فقيهنا الشيخ سلمان العودة، وأبلغني رغبة الشيخ حفظه الله في زيارتي في البيت عصر يوم الاتصال قلت: الحق لكم، أنا أزوركم، وأقبل زيارتكم لبيتي، ولكن وأنتم لستم صياما، وبعد أخذ ورد قبل زيارتي له في مقر إقامته. كان لقاء الأحبة، لقاء الصدق والوفاء. تحاورنا في هموم الأمة باختصار نظرا لضيق الوقت ومشقة الصيام.
سألت شيخنا الجليل: إنكم معشر الدعاة والوعاظ والمحدثين تتحدثون عن السعادة في الدنيا والآخرة وتمطرون الناس بأحاديث نبوية الصحيح منها والمتفق عليه والضعيف وتخضعون القرآن الكريم لتدللوا بآياته على ما تقولون، وفي ظل الأحداث التي تعج بها ديار العرب والمسلمين قد يجفل القوم عنكم وما تقولون؟ كان رده: السعادة هي أن ترى روائع الدنيا، وتستمتع بها، دون أن تسكب قطرات الزيت، فالسعادة حاصل ضرب التوازن بين الأشياء.. قلت لم أفهم العلاقة بين سر السعادة وقطرات الزيت؟ قال في أدب جم: أمهلني أكمل الصورة.
(3)
في أحاديثنا لا شك نحن مرتبطون بالقرآن وبالحديث والسنة، ولكن نستدعي تجارب الإنسان ونسقطها على واقعنا كي لا يغفل القوم عنا. أحيلك إلى "زنزانة: عادة مدى الحياة" إنه كتابي ووقع الكتاب بين يدي وظننت أنه يتحدث عن زنزانة سجين الرأي الشيخ سلمان، في صفحة 53 وجدته يتحدث عن سر (الملفوف) إنها إجابة على سؤالي عن السعادة، يقول الشيخ العودة "إن أحد التجار، طبعا ليس تاجرا عربيا، أرسل ابنه لكي يتعلم سر السعادة لدى حكيم. مشى الفتى أربعين يوما حتى وصل قصرا على قمة جبل وفيه يسكن الحكيم.
انتظر ساعتين في طابور طويل، وحين واجه الحكيم نظر إليه وقال: الوقت لا يتسع الآن، قم بجولة في القصر ثم عد إلي بعد ساعتين وأعطاه ملعقة صغيرة فيها نقطتان من الزيت، وأوصاه أن يمسك بها طيلة جولته دون أن تنسكب.
أخذ الفتى يصعد ويهبط ويتجول مثبتا عينيه على الملعقة. حين عاد سأله الحكيم: هل رأيت السجاد الفارسي في غرفة الطعام؟ الحديقة الجميلة، هل استوقفتك المجلدات في مكتبتي؟ ارتبك الفتى واعترف له بأنه لم ير شيئا، كان همه ألا يسكب نقطتي الزيت من الملعقة، طلب إليه الحكيم العودة مرة أخرى للقصر. عاد الفتى يتجول منتبها إلى الروائع الفنية المعلقة على الجدران، وشاهد الحديقة والزهور الجميلة.
عندما رجع كان قد شاهد الأشياء ولكنه اكتشف أن قطرات الزيت قد انسكبت.
يقول شيخنا سلمان العودة: "وجدت تفاصيل الحياة مثل (ثمرة الملفوف)، منا من يقطع ورق الملفوف ويأكله ويستمتع به أو يستخدمه في صناعة وجبة، ومنا من يقطع الورق ويرميه لأنه يريد أن يحصل على "اللّب"!
ويذهب شيخنا بعيدا ليقول: "الباحثون عن اللب لن يجدوا شيئا، لقد زهدوا في ورق الملفوف بحثا عما هو أثمن في نظرهم ثم اكتشفوا بعد الفوات أنه لا شيء أثمن من ذلك الورق، وأن هذه الثمرة ليس لها لب، وإن شئت فقل: كلها لب!
آخر القول: كتاب الشيخ سلمان "زنزانة عادة مدى الحياة" هي عندي سيرته الذاتية يرويها بغير ما ألف القوم.. قال فيها كل شيء دون إثارة ودون إزعاج، إنه أدب جديد في كتابة السير الذاتية. إنه يؤسس لمدرسة في كتابة السير الذاتية. إنه كتاب جدير بالقراءة.