«البيت العود» هو اللفظ الذي نطلقه في الأصل على بيت رأس الأسرة الممتدة، الجد، الجدة، العم الأكبر، كل عائلة تعتبر البيت العود هو ذلك الذي يجتمع فيه كافة أفراد العائلة في المناسبات وأيام الجمع، ذلك التجمع الذي يجمع الكبير بالصغير ملتفين جميعاً حول تلك الشخصية المحورية، كبير أو كبيرة العائلة، لا دلالة في الاسم لحجم البيت، قد يكون البيت العود هو الأصغر والأقدم والأقل بريقاً بين بيوت العائلة ولكنه يبقى الأجمل بالذكريات التي تترامى في جنباته والمودة التي تلف غرفه وزواياه، البيت العود إذاً هو العش الذي تعود إليه الطيور المهاجرة لتنهل شيئاً من ذلك الود العائلي وتستذكر بعضاً من ماضيها الذي طوته الحياة المدنية ومشاغل الدنيا التي لا تنتهي.
اليوم ومع ازدياد دخل الأفراد في منطقتنا ازداد الاهتمام بحجم البيت وأثاثه ومظهره من الداخل والخارج، الكثير منا يبني المجالس التي تتسع للخمسين والستين، حتى وإن لم يكن لدينا من الزوار ما يملؤها، ونشتري الأثاث لمجالسنا ببذخ كان سيثقل كاهل لويسات فرنسا، حتى وإن بقيت مجالسنا مغلقة أمام الزوار، نبني بيوتنا وكأننا نتوقع طابوراً يومياً من الزوار صباح مساء، والواقع هو أن الكثير من مجالسنا يعتليه الغبار معظم السنة لتشرق أنواره لأيام قليلة خلال العام لزائر هنا وزائرة هناك.
ويبقى البيت العود، غير متأثر بهذه البهرجة، كبر المجلس أو صغر، كان الأثاث إيطالياً أو شعبياً، لا يهم، المهم أن تجتمع القلوب على بسمة وضحكة وقصة قديمة، اليوم نجد أن مفهوم البيت العود كتجمع عائلي بدأ يتلاشى، لا شك أنه ما زال موجوداً وحاضراً في بيئتنا، ولكنه لم يعد بالمركزية التي كان عليها، مجالس الأصدقاء استبدلت مجالس العائلات، المقاهي والمطاعم استبدلت غداء العائلة الأسبوعي، والمصالح المادية استبدلت الترابط الأسري التكافلي، كل ذلك يبدو للرائي نتيجة حتمية للطفرة المادية والتطور الاجتماعي الذي يرافقها.
ولكن هل ستتحمل الطفرة المادية الاجتماعية بقاء مفهوم الأسرة الممتدة المتجسد في «البيت العود»؟ الأسرة الممتدة كادت تتبخر، بل في كثير من الأحيان تبخرت، في المجتمعات التي غزتها الحضارة الغربية المادية مبكراً، أذكر أن صديقاً أميركياً من أصل أرجنتيني كان يقول لي إن عائلته تقليدية محافظة، ليست كالعائلات الأميركية المتفككة، وليدلل على هذا التقارب والترابط أخبرني أنه يجتمع مع عائلته -أمه وأبيه وإخوته- في كل عيد! لم أشأ أن أجرح شعوره وأخبره بأني أجتمع مع أفراد عائلتي الممتدة مرة في الأسبوع ومع والدي وإخوتي بشكل شبه يومي، ففي معايير مجتمعه يعتبر الاجتماع في المناسبات كافياً لتحقيق مفهوم الترابط الاجتماعي.
الأكاديمي الشهير روبرت بتنام أجرى بحثاً حول الترابط الاجتماعي في أميركا أنتج بعده كتاباً بعنوان «لعب البولينج منفرداً» يشير بهذا العنوان إلى اختفاء الممارسات الأميركية الجماعية والتي كان منها خروج الأصدقاء أو الأسرة للعب البولينج معاً نهاية كل أسبوع، بتنام يقول إن التعددية الثقافية التي تتزايد بشكل مضطرد في منطقتنا، تؤدي بشكل حتمي إلى التقوقع إلى المستوى الفردي، فالعائلات الممتدة تتقلص إلى أسر نووية ثم يبقى الفرد منعزلاً عن محيطه نتيجة لهذه التعددية والتي هي شكل واحد من أشكال التطور الاجتماعي الناتج عن الطفرة المادية، فالمجتمعات الغربية التي ارتفع فيها مستوى دخل الفرد عن غيرها بعد الحرب العالمية الأولى أصبحت وجهة اللاجئين والباحثين عن فرص أفضل للحياة كما هو الحال اليوم في دول الخليج التي تستقبل سنوياً الآلاف من المقيمين الجدد، كل ذلك يؤثر على ترابط المجتمع مع بعضه ويغير تدريجياً من منظومة ممارساته وقيمه الاجتماعية وحسب نظرية بتنام سيؤدي إلى تقوقع على الذات يفكك البنى الاجتماعية الكبيرة.
مجتمعنا اليوم ما زال بخير من ناحية الترابط الاجتماعي فالمجالس ما زالت ظاهرة حية واجتماعات البيت العود ما زالت مألوفة، ولكن إذا لم نعمل معاً كمجتمع على تعزيز هذه الظواهر وحمايتها من النمط الغربي الفردي في الحياة فستضمحل تدريجياً حتى تختفي كما اختفت في مجتمعات أخرى، وتدريجياً سيتحول «البيت العود» إلى غرفة لشخص واحد.