تكاد تكون الأزمة التي تعيشها المنطقة راهنا هي أزمة الجميع، بدأت شأنا داخليا سعوديا ولكنه ذو رسائل عديدة قصدها المرسل والمتلقي، قادت إلى أوسع وأعمق أزمة عرفتها المنطقة منذ سنوات . فلماذا تحول تفصيل داخلي إلى أزمة تكاد تصبح عالمية، وما هي ردود أفعال أطرافها؟ وكيف انقسمت خريطة العالم الجغرافية سياسيا تبعا لأزمة سياسية، ولماذا ترددت أبوظبي في اتخاذ خطوات أكثر حسما اتجاه إيران؟
سياق الأزمة.. "النمر ليس إلا ورقة"
المدان السعودي الذي تم تطبيق حكم الإعدام عليه قصاصا، نمر النمر ليس إلا ورقة تم استخدامها في هذا التوقيت الحساس والظرف الدقيق من لحظة تاريخية وسياسية فارقة من تاريخ المنطقة. فإيران هي التي بدأت استغلال "الإعدام" لأنها تدرك أن إقدام السعودية على تنفيذ القصاص بهذا "الإصرار" إنما يبعث برسائل أكبر بكثير من مجرد تعليق شخص على مشنقة.
السعوديون اختاروا وقتا محسوبا، كما يرى محللون، لتنفيذ القصاص. فهو يأتي بعد 48 ساعة من الإعلان عن مجلس تعاون استراتيجي بين تركيا والسعودية، وبعد ساعات من إعادة افتتاح الرياض سفارتها المغلقة في بغداد منذ ربع قرن، وبعد أيام من اغتيال روسيا لقائد جيش الإسلام زهران علوش أحد أهم ضيوف مؤتمر الرياض بشأن سوريا في ديسمبر الماضي، وقبل أيام من بدء جولة محادثات مفترضة بين المعارضة السورية ونظام الأسد، وبعد أيام من إعلان التحالف الإسلامي بقيادة السعودية، ومع استمرار عمل نظام السيسي وحلفائه ضد المصالح السعودية، والذهاب في جميع الاتجاهات، كمناكفة تركيا الحليف الجديد للرياض، وتأييد موسكو التي بعدوانها على سوريا إنما تعمل بشكل صريح ومحدد ضد المصالح السعودية.
ردود الأفعال على الأزمة
منذ اللحظات الأولى لإعلان تنفيذ القصاص، وكما كل قضية فقد رسمت ردود الأفعال من الجانبين حدود هذه الأزمة. ولا يُتصور أن الرياض أقدمت على "إعدام النمر" دون دراسة ردود الفعل المتوقعة من جانب إيران ومليشياتها، ودون تحديد التعامل مع هذه الردود، والتي جاءت كما هو حال السياسة السعودية في عهد الزعيم العربي الكبير الملك سلمان بن عبد العزيز في عامه الأول: فقد جاء الرد حازما ومفاجئا وقويا أكمل الرسائل التي وجهتها الرياض إلى جميع الأطراف سواء المناوئة لها أو المؤيدة من وراء "الإعدام".
ردود طائفية لا تتقنها إلا إيران
سارعت إيران ومليشياتها الشيعية بالداخل والخارج على القيام بردود فعل ليست مقصودة بذاتها، وإنما المقصود الرد على رسالة "الإعدام" برسائل أخرى. فأطلقت العنان لمخربين بإحراق القنصلية السعودية في مشهد واقتحام السفارة في طهران، على غرار اقتحام إيراني سابق للسفارة الأمريكية بطهران قبل نحو 3 عقود.
في لبنان، زعيم حزب الله يشن انتقادات غير مسبوقة ضد الرياض، في إيران جميع المسؤولين بدءا من خامنئي وحتى موظفي الخارجية إلى "الحرس الثوري" لم يفوتوا أي دقيقة بدون مزيد من التهديد والوعيد "بالسحق" و "القضاء" و"الانتقام الإلهي" والتطاول على الأسرة الحاكمة، والشعب السعودي والإساءة لعموم أهل السنة.
وفي العراق صرح رئيس وزراء العراق الحالي حيدر العبادي والسابق نوري المالكي والسيستاني ومقتدى الصدر وغيرهم الكثير بما يندد بتنفيذ القصاص، و توجيه الانتقادات والهجوم اللفظي العنيف ضد السعودية، إلى جانب قيام مليشيات شيعية عراقية يتدمير مسجدين للسنة وقتل مؤذن "للرد" على شأن داخلي سعودي، والنظام الطائفي في بغداد هو الذي أعدم آلاف مؤلفة من علماء السنة وبدون محاكمات أو بمحاكمات صورية، وفق ما تؤكده مئات الشهادات ومنظمات حقوق الإنسان وما يؤكده الواقع.
ردود الفعل الخليجية والعربية
إزاء عنف ردود الفعل الإيرانية وعناصرها في المنطقة، أعلنت الرياض قطع علاقاتها الدبلوماسية والتجارية والملاحية مع طهران، تبعها بعدة ساعات البحرين فالسودان، فيما اكتفت أبوظبي بخفض العلاقات مع طهران إلى قائم بالأعمال. المغرب وجيبوتي والكويت وباكستان والأردن وقطر واليمن يتضامنون مع الرياض ويدينون الاعتداء على بعثاتها الدبلوماسية، ومجلس التعاون الخليجي يتصدى لإيران، والجامعة العربية تجتمع الأحد القادم لتدارس رد عربي على طهران، والأزهر والبرلمان العربي ومجلس وزراء الداخلية العرب، ورابطة العالم الإسلامي و"إيسيسكو" وجماعات المعارضة السورية يؤيدون موقف الرياض بقطع العلاقات مع إيران، وينددون بتدخل إيران في الشأن السعودي خاصة والخليجي والعربي عامة.
ردود فعل دولية
اختصر الكاتب السعودي عبد الرحمن الراشد في مقال له اليوم في صحيفة الشرق الأوسط، بعنوان "أزمة بلا دبلوماسيين ولا وسطاء" حال هذه الأزمة الراهنة. فتركيا وهي مركز ثقل في المنطقة توترت علاقاتها مع إيران بصورة كبيرة مؤخرا، ما يحد من تدخلها كوسيط، كما يستنتج الراشد. أما روسيا التي عرضت وساطة وهي مفجرة الأزمات في المنطقة، وأحد الأطراف المعنية في "ورقة النمر" فقدت كل قيمة حيادية بعد أن تورطت بصورة مباشرة في سوريا ضد السعودية، مع انحيازها الكامل لطهران.
ألمانيا وفرنسا وأمريكيا وبريطانيا ودول أخرى، أدانوا أحكام الإعدام كما يدينون أي حكم إعدام في العالم، مع إدانتهم للاعتداء على مقار السعودية الدبلوماسية، كما أدان ذلك مجلس الأمن الليلة الماضية. ردود الفعل المتبادلة بين الخليج وإيران دفع العالم لإدراك خطورة الموقف، فسارع كيري للاتصال بنظيريه السعودية والإيراني يدعو للهدوء، الأمم المتحدة عبرت عن قلقها، ألمانيا تراجع صفقات السلاح للرياض وترفض فرض عقوبات. أسعار النفط تقفز 2%، البورصات الدولية تواجه انهيارات حادة، هذه الأزمة أحد أسبابها الرئيسية.
موقف أبوظبي من الأزمة
ليس معروفا بعد على وجه الدقة كيف قرأت أبوظبي هذه الأزمة، فهي قامت بخفض علاقاتها مع طهران، ووصفت هذه الخطوة بـ"الاستثنائية" أي بالمؤقتة وليس بالمهمة. وكانت القرينة لهذا التفسير أن علاقات الإمارات بإيران "أعمق" بكثير من قطعها من أجل أي دولة، فهي لم تقطعها رغم احتلال هذه الدولة لثلاث جزر إماراتية من 45 عاما، فضلا عن الجانب التجاري الهائل بين البلدين جراء ما تتهم به الدولة من مساعدة طهران بالالتفاف على العقوبات الدولية، كما أن "كعكة" ما بعد رفع العقوبات عن طهران قريبا بموجب الاتفاق النووي سيعود بالفائدة الكبرى على الدولة وفق تقييمات اقتصادية إقليمية وعالمية. وليس من السهولة أن تضحي بذلك، كما يرى البعض.
ولكن يرى آخرون أن أبوظبي يمكن أن تضحي بما هو أكبر من ذلك لو ارتبط الأمر بمصلحة أيديولوجية ضد الربيع العربي والإسلام الوسطي. ويستدل هؤلاء بحماس أبوظبي واندفاعها وتصدرها "أزمة السفراء" مع قطر عام 2014 وكيف كانت أبوظبي الصوت الأعلى في التضييق على الدوحة رغم العلاقات الخليجية – الخليجية الشعبية والرسمية الوثيقة.
وكما الحال الآن مع تركيا، حيث صوتها الأعلى أيضا في مناكفة دولة إسلامية لأسباب أيدولوجية مرتبطة بنظام السيسي. إذ يتساءل مراقبون، كيف تسمح أبوظبي لنفسها بتعريض العلاقات الخليجية للخطر إبان أزمة السفراء وتعادي دولة إسلامية كبيرة مثل تركيا من أجل نظام السيسي، في حين تبدو مترددة في حسم موقفها إزاء إيران عندما تعلق الأمر بالدولة العربية الخليجية الكبرى.
محللون، رأوا أن أبوظبي قد لا تعتبر أن الخطوات التي تقوم بها الرياض معادية أو تستهدفها مباشرة، ولكن مجلس التعاون الاستراتيجي الأخير مع تركيا لا يزال يواجه انتقادات إعلامية حادة بصحف أبوظبي الرسمية، إذ تعتبر أي يتقدم تحرزه الرياض وحلفاؤها يصب بالضرورة ضد مصالحها ومصالح نظام السيسي وسياسة إيران وروسيا ونظام الأسد الذين أجمعوا على اعتبار الثورات العربية والإسلام الوسطي هو العدو، وهو موقف لا تتبناه الرياض ولا حلفاؤها في المقابل.
بكلمة أخرى، يرى مراقبون، أن معظم الجهود التي قادتها أبوظبي في المنطقة والعالم لتبوؤ مكانة إقليمية وعالمية في "محاربة الإرهاب" مثلا، والتي دفعت البعض لوصف الإمارات بأنها عاصمة القرار والفعل العربي، قد انهارت بقرار سعودي واحد، رقصت المنطقة والعالم على إيقاعه؛ منتظرين القرار السعودي القادم.