"المال من أجل الجميع"، هل يمكن أن تتحقق هذه الفكرة التي طالما حلم بها المفكرون؟ والأغرب هل يمكن أن ينفذ هذا الحلم من قبل شركات التكنولوجيا التي تعد رمز الرأسمالية الحديثة التي يمقتها عادة المثقفون المنحازون للمساواة والمتعاطفون مع الفقراء؟.
فجر مارك زوكربيرغ مؤسس فيسبوك مؤسس والرئيس التنفيذي للشركة هذه القضية منذ شهرين عندما طرح فكرة إيجاد دخل أساسي عالمي، في اقتراح يفترض أن يخرج من مفكر شيوعي عتيق وليس من أحد رموز الرأسمالية الأميركية.
وقال زوكربيرغ فى خطاب بجامعة هارفارد بمناسبة حصوله على الدكتوراه الفخرية في مايو/أيار 2017 "يجب أن نستكشف أفكاراً مثل الدخل الأساسي الشامل للتأكد من ان الجميع لديهم قاعدة ودافع لخلق الأفكار الجديدة".
وأضاف "كل جيل يوسع تعريفه للمساواة. الآن حان الوقت لجيلنا لتحديد عقد اجتماعي جديد"، حسب تعبيره.
جون ثورنيل: مُحرِّر الإبداع في صحيفة فاينانشال ىتايمز البريطانية ومؤسِّس منتدى "The 125" التابع للصحيفة يعلق على هذه الفكرة قائلا "إن في فكرة ضمان دخلٍ أساسي للجميع العديد من العيوب الواضحة، وميزةً عظيمة واحدة؛ وهي أنَّها تُكرِّس مبدأ أنَّ كل مواطن هو عضو ذو قيمة في المجتمع ولديه الحق في أن يشارك في ثرواته الجمعية.
ويشير ثورنيل في مقال بفايننشيال تايمز إلى أن هذه القناعة قد حرَّكت مفكرين راديكاليين على مدار 500 عامٍ، منذ أُثيرت الفكرة لأول مرة في كتاب "يوتوبيا" أو "المدينة الفاضلة" للسياسي والمؤلِّف الإنكليزي السير توماس مور. واكتسبت الفكرة صدى متجدداً في عصرنا هذا، وذلك مع شعورنا بالقلق إزاء تآكل مستويات المعيشة، وتركيز الثروة، والتهديد المحتمل للبطالة الجماعية الناجمة عن التغيُّر التكنولوجي.
لكن على مدى 500 عام، لم يعدُ الدخل الأساسي العالمي أن يكون أكثر من مجرد حلم مثالي طوباوي بسبب تحطُّمه دائماً على صخور الواقع. وتنحصر الاعتراضات الرئيسية على هذه الفكرة، من حيث المبدأ والتطبيق العملي، في سؤالين:
نموذج مطبق حاليا.. فهل نجح؟
لماذا يجب أن يحصل الناس على المال دون فعل شيء؟ وكيف يمكننا تحمُّل ذلك؟
ومع ذلك، لايزال من الممكن تصميم برنامج دخلٍ أساسي يحتفظ بميزاته الرئيسية ويقلل عيوبه. فافتراضياً، يوجد نموذج ناجح في ولاية ألاسكا الأميركية يعمل منذ أكثر من 30 عاماً، حسب ثورنيل.
ففي عام 1976، وافق المصوتون في ولاية ألاسكا على تعديلٍ دستوريٍ لإنشاء صندوق ثروة دائم، مُموَّل من عائدات الطفرة النفطية الأولى في الولاية. وبعد سنواتٍ قليلة، بدأ صندوق ألاسكا الدائم في دفع حصةٍ من الأرباح لكل مواطن مُسجَّل بالولاية.
واعتماداً على أداء الصندوق، تراوحت قيمة العوائد السنوية بين 878 دولاراً و2072 دولاراً على مدى العقد الماضي. ويُعَد هذا، في كل شيءٍ عدا الاسم، دخلاً أساسياً عالمياً يُدفَع بصرف النظر عن المساهمة الاجتماعية أو الثروة.
لم يؤد هذا البرنامج إلى تراخٍ عام (في مجال العمل)، مثلما خشي منتقدو فكرة الدخل الأساسي. ويمكن اللغز في الصفة "أساسي".
وقد حظي البرنامج -الذي نجح في الحصول على دعمٍ من الحزبيين الجمهري والديمقراطي- بشعبيةٍ متزايدة ووُصِف بأنه من "الملفات الشائكة" في سياسات الولاية"؛ لأنَّه يصعق أي سياسي يحاول المساس به. وفي استطلاعٍ أُجري عبر الهاتف مؤخراً، ذكر مواطنو ألاسكا أنَّ أكبر ثلاث مزايا للصندوق هي مساواته في المعاملة، وعدالته في التوزيع، ومساعدته للأسر الفقيرة. وقال حوالي 58% من المشاركين في الاستطلاع إنَّهم قد يكونوا مستعدين لدفع المزيد من الضرائب للحفاظ على الصندوق، وذلك على الرغم من معاناة ألاسكا من انخفاض أسعار النفط.
ورغم مواردها الطبيعية، لا تُصنَّف ألاسكا ضمن أغنى الولايات الأميركية من حيث الناتج المحلي الإجمالي للفرد، لكنَّها لا تزال -جزئياً بفضل أرباحها السنوية- واحدةً من أكثر الولايات من حيث المساواة الاقتصادية وتمتلك واحداً من أقل معدلات الفقر.
والشهر الماضي، يوليو/تموز، زار مارك زوكربيرغ، الرئيس التنفيذي لشركة فيسبوك، ألاسكا وامتدح البرامج الاجتماعية للولاية، قائلاً إنَّها قدَّمت بعض الدورس الجيدة لباقي الولايات.
ومثل رواد الأعمال الآخرين في وادي السيليكون، يؤمن زوكربيرغ أنَّ الآلاف من الوظائف ستختفي تماماً بسبب التقنيات الحديثة، كالسيارات ذاتية القيادة. ويقول زوكربيرغ إنَّه في عالمٍ مثل هذا نحتاج إلى ابتكار عقدٍ اجتماعي جديد، ويمكن أن يكون الدخل الأساسي جزءاً من الإجابة.
لكن يرى البعض أنَّ ألاسكا تُعد حالة خاصة لأنَّها فقط كانت توزِّع ثمار فترة الطفرة النفطية بها. لكن ربما يمكن إيجاد مصادر دخل أخرى لتمويل برامج مماثلة في أي مكانٍ آخر. وقد اقترح البعض فرض ضريبة على قيمة الأراضي، بينما دعا آخرون إلى فرض ضريبة على المعاملات المالية.
ما المصدر الجديد الذي سيزيد دخلك؟
لكن هناك مصدر دخل محتمل آخر يعلم زوكربيرغ كل تفاصيله، ألا وهو البيانات. فإذا كانت البيانات، كما يُقال، هي النفط الجديد، فإنَّنا ربما نكون بذلك قد وجدنا مصدر دخل القرن الحادي والعشرين. يمكن للبيانات أن تفعل للعالم ما فعله النفط لألاسكا.
يقول ثورنيليُعد اهتمام زوكربيرغ بالفئة المهمشة في المجتمع أمراً جديراً بالثناء، تماماً كالتزامه ببناء مجتمعات قوية".
ويضيف "بخلاف معظمنا، يمتلك زوكربيرغ التأثير الشخصي للمساعدة في حل مشاكل عصرنا؛ فهو يدير واحدة من أكثر شركات العالم قيمةً ولديه منبر رقمي جاهز يمكنه من خلاله أن يطرح قضيته على ملياري مستخدم لفيسبوك".
ويجب عليه الآن أن يرتقي بطموحاته ويطلق صندوق فيسبوك الدائم ليكفل تجربة أوسع لفكرة الدخل الأساسي العالمي. ويجب أن يحث شركات البيانات الأخرى، مثل غوغل، على المساهمة أيضاً.
إنَّ أكثر الأصول التي تملكها شركة فيسبوك قيمةً هي البيانات التي يقدمها المستخدمون -دون قصد في كثير من الأحيان- مجاناً، قبل أن تُباع للمُعلنين في واقع الأمر.
وسيبدو الأمر عادلاً إذا ما قدمت فيسبوك مساهمةً اجتماعية أكبر مقابل استفادتها من هذا المورد ذي القيمة العالية والذي يتوافر بشكلٍ جماعي.
وربما يكره المساهمون في الشركة الفكرة، لكن منذ سنوات فيسبوك الأولى، قال زوكربيرغ إنَّ هدفه هو أن يكون له تأثيرٌ أكثر من مجرد إنشاء شركة. بالإضافة إلى ذلك، قد تكون هذه البادرة الإنسانية بمثابة انقلاب القرن في التسويق.
ويمكن أن يستمر مستخدمو فيسبوك في مبادلة صور القطط وهم يعلمون أنَّ كل ضغطة تساهم في تحقيق فائدة اجتماعية أكبر.
تُعد هذه المبادلة بين البيانات والدخل الأساسي بسيطة وواضحة، ويجب أن تروق لمستثمري وادي السيليكون. ويتشكَّك العديد من رواد الأعمال التقنيين من التدخل الحكومي، ولكن لا توجد قاعدة تنص على أنَّ الحكومات فقط هي المسؤولة عن مهمة إعادة توزيع الثروات، بحسب "هاف بوست عربي".