منذ تصاعد أزمة شرق البحر المتوسط بين تركيا واليونان، لوح الاتحاد الأوروبي مراراً بورقة العقوبات الاقتصادية في وجه تركيا وهو سيناريو “مؤلم” لتركيا في حال حصوله كون الاتحاد أكبر شريك اقتصادي لأنقرة التي يمر اقتصادها بظروف صعبة في الأشهر الأخيرة، لكن الخشية من “رد تركي قوي ومؤلم أيضاً” يدفع الاتحاد إلى التريث كثيراً ومحاولة احتواء الأزمة بدون الدخول في حلقة مفرغة من العقوبات المضادة التي لن تساهم في حل الأزمة بل ستزيدها تعقيداً.
وطوال الأشهر الماضية، ضغطت اليونان ولاحقاً فرنسا على الاتحاد الأوروبي بكل الوسائل من أجل فرض عقوبات اقتصادية كبيرة على تركيا للضغط عليها من أجل التراجع في الأزمة المتصاعدة حول التنقيب عن موارد الطاقة شرق المتوسط، لكن رئاسة الاتحاد وألمانيا الدولة الأكثر تأثيراً داخله رفضوا حتى الآن هذه المطالب وطالبوا بتغليب لغة الحوار على لغة العقوبات التي أكدت تركيا مراراً أنها لن ترضخ أمامها على الإطلاق.
وفي الاجتماع الأخيرة لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبية، لوح الاتحاد مجدداً بإمكانية فرض عقوبات على تركيا إذا لم تتراجع عن عمليات التنقيب المتواصلة شرق المتوسط، والأسبوع الماضي قال مسؤول السياسة الخارجيّة في الاتّحاد الأوروبي جوزيب بوريل إنه ما لم تنخرط تركيا في محادثات فإن الكتلة ستضع قائمة بمزيد من العقوبات خلال اجتماع للمجلس الأوروبي في 24 و25 سبتمبر.
وفي ظل استمرار التصعيد وعدم وجود أفق للتوصل إلى حل قريب للازمة قبيل ذلك التاريخ إلا أن احتمال فرض عقوبات اقتصادية -حقيقية- من قبل الاتحاد الأوروبي ضد تركيا يبقى مستبعداً، مع وجود احتمال قوي لفرض عقوبات اقتصادية تصفها تركيا بـ-الشكلية- أي أنها عقوبات اقتصادية (غير مؤثرة) ولا يمكنها أن “تردع” تركيا أو تجبرها على التراجع في أزمة شرق المتوسط.
وفرض الاتحاد الأوروبي على تركيا طوال السنوات الماضية سلسلة من العقوبات الاقتصادية بسبب ملفات تتعلق بالخلاف مع اليونان وقبرص وغيرها من الملفات لكن أنقرة وصفت هذه العقوبات بـ”الشكلية” ومحاولة لإرضاء اليونان وفرنسا ولم يكن لهذه العقوبات تأثير حقيقي على الاقتصاد التركي.
لكن هذا لا يعني أن الاتحاد الأوروبي لا يمتلك القدرة على “إيذاء” تركيا اقتصادياً، فالاتحاد هو أكبر شريك اقتصادي لتركيا على الإطلاق ويصل حجم الصادرات التركية إلى دول الاتحاد الأوروبي إلى قرابة 50٪ من حجم الصادرات التركية التي وصلت عام 2019 إلى 180 مليار دولار، أي أن تركيا لديها صادرات بقيمة تقارب الـ90 مليار دولار وهي من أكبر ركائز الاقتصاد التركي.
لكن في المقابل، لدى تركيا واردات كبيرة أيضاً من دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعني أن أي عقوبات تتعلق بواردات الاتحاد الأوروبي من تركيا سيقابلها خطوة مماثلة تتعلق بواردات تركيا من دول الاتحاد، ما يعني أن الضرر سيكون على الجانبين، مع الأخذ بعين الاعتبار قدرة بعض الدول الأوروبية أكثر من تركيا على تحمل الآثار الاقتصادية لهكذا خطوات في ظل الصعوبات التي يواجهها الاقتصاد التركي في الأشهر الأخيرة.
ومنذ سنوات طويلة، تطبق تركيا سياسية “التعامل بالمثل” في الخلافات السياسية والاقتصادية بين الدول، وطبقت ذلك مع الولايات المتحدة ودول أوروبية مؤخراً حيث تقوم على الفور باتخاذ قرارات مضادة بنفس الحجم للرد على أي قرار يتعلق بفرض عقوبات سياسية أو اقتصادية، وبالتالي الحديث عن عقوبات اقتصادية سيكون أثرها سلبياً على الجانبين مع فارق القدرة على تحمل هذه الآثار.
يضاف إلى ذلك، انه وفي حال وصلت الأمور إلى مرحلة حرجة في العلاقات بين البلدين وقرر الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات “حقيقية” و”مؤلمة” في الجانب الاقتصادي ضد تركيا، فإن أنقرة ستلجأ على الأغلب إلى الرد على ذلك في ملفات أخرى ربما تكون “مؤلمة” أيضاً للاتحاد الأوروبي.
وفي هذا الإطار، تظهر مجدداً ورقة اللاجئين من التي أرقت الاتحاد طوال السنوات الماضية، حيث يتوقع ألا تتردد أنقرة في فتح أبوابها البرية والبحرية مجدداً وتشجيع اللاجئين على الوصول بأعداد كبيرة إلى دول الاتحاد الأوروبي، وبالتالي تجميد اتفاق الهجرة وإعادة القبول الموقع عليه بين تركيا والاتحاد الأوربي، كما يمكن أن ينعكس ذلك على الكثير من الاتفاقيات المرتبطة بالتعاون الأمني ومكافحة الإرهاب وغيرها، وبالتالي فإن أي عقوبات ستكون مضرة للجانبين وهو ما يرجح إمكانية مواصلة الاتحاد محاولاته للتوسط والتوصل إلى حلول للأزمة بعيداً عن سياسة العقوبات.
وفي هذا الإطار، اقترح رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي شارل ميشيل، الجمعة، عقد مؤتمر متعدد الأطراف للحد من التوتر شرقي البحر المتوسط. وقال ميشيل إن زعماء الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، سيعقدون قمة حول تركيا في بروكسل يومي 24 و25 سبتمبر الجاري، وأوضح أن القمة من المقرر أن تتناول ماهية السياسة التي ستتبع حيال تركيا، وكيفية تطوير العلاقات معها.
كما جدد الاتحاد الأوروبي دعوته للحوار من أجل حل التوتر الحاصل شرقي المتوسط، بين تركيا واليونان، حيث شدد المتحدث باسم المفوضية الأوروبية بيتر ستانو على ضرورة بدء المفاوضات من أجل خفض التوتر في المنطقة، مؤكدا أن الاتحاد الأوروبي لم يغير موقفه الداعي إلى الحوار.
والأحد، دعا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مؤسسات ودول الاتحاد الأوروبي إلى التحلي بالعدالة والحياد والموضوعية والتصرف بمسؤولية في جميع القضايا الإقليمية، لا سيما في شرق البحر المتوسط، وذلك خلال اتصال هاتفي مع رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، بحثا خلاله التطورات شرقي المتوسط والعلاقات التركية الأوروبية.
وقال أردوغان إن التصريحات والخطوات المحرضة التي تصدر عن المسؤولين الأوروبيين فيما يتعلق بالقضايا الإقليمية “لا تساهم في الحل”، مشيراً إلى ضرورة أن يتحمل الاتحاد الأوروبي مسؤوليته في إطار القانون، بشأن ثني اليونان وبعض دول الاتحاد عن خطواتها التصعيدية في شرق المتوسط وبحر إيجه، على حد تعبيره.