الهوية الوطنية ليست ثابتة، ولكن تتغير باستمرار وتقوم معظم الحضارات بإعادة ترميمها وتعريفها شعورياً أو لاشعورياً لتتعايش مع واقع معين أو هروباً من تهديد ما، أو للحصول على مكاسب تضمن بقاء النوع البشري على قيد الحياة. وحتى إنْ خسرت تلك الثقافات الكثير من مكوناتها، أو تم تغييرها جزئياً أو دمجها مع غيرها، فالهوية تتكيف دائماً لتحقيق التوازن المطلوب بين الماضي والحاضر أو الحلم أو الطموح المستقبلي، وتعاني التخلف أو صعوبة التقدم بوتيرة سريعة تلك الحضارات التي ترفض وتقاوم ذلك التكيف والتحور الذاتي في جينات الهوية الوطنية.فالتفرد الثقافي، أو حتى التفرد في الهوية ليس بالضرورة مؤشراً على التطور والحداثة دون بعض البراجماتية والنزعة النفعية للتبادل الإيجابي للهوية مع باقي الهويات. وحصر هوية شعب بلغة واحدة وعرق واحد ومذهب واحد وثقافة واحدة وتقاليد وعادات سائدة، أصبح من إرث الماضي التليد. نحن نرفض مفهوم الثقافة الغربية، ولكننا نقبل الجوانب التقنية والعلمية للحداثة الغربية، وحالة نصف الحداثة هذه لا تصلح لاستدامة مشروع الحداثة الثقافية وارتباطها بالهوية الوطنية، ويجب أن نأخذ كل ما هو نافع من كل الثقافات والتخلي عن بعض معالم هويتنا، إذا كانت من أسباب تخلفنا عن ركب الحضارة الإنسانية.
والهوية العربية والهوية الإسلامية لايوجد أدنى شك في أنهما يعانيان أيما معاناة، وتجد عدداً كبيراً من العرب والمسلمين لا يربطهم بهويتهم العربية سوى الاسم والديانة وبعض العادات والتقاليد التي يحققون من خلالها سيطرة العنصر الذكوري، والنظام الطبقي والمذهبي على المجتمعات، ولذلك عندما تجلس مجموعة من المراهقين أو الأطفال في ردهة طعام في أي مركز تسوق في أي مدينة عربية كبرى تجدهم يتحدثون باللغة الإنجليزية أو الفرنسية ويستمعون للأغاني الأجنبية وتصرفاتهم وأسلوب حياتهم وتفاعلهم أقرب لنظرائهم في أي مكان في العالم الغربي، ونحن لا نزال نتحدث عن الهوية الوطنية وكأن ما يحدث أمام أعيننا ليس واقعاً، بل حلم عابر سيزول بعد ثوانٍ معدودة، فالكل يعمل وفق منظومة "انجز اليوم وفكر غداً".
والإعلام من جهة أخرى يعد أكبر آليات هدم وطمس للهوية الوطنية بعد أن تم تغريبه طوعاً، فأصبح التركيز على الظاهر، وأن يكون الإعلامي له وجه إعلامي سينمائي، ويقدم عملاً إعلامياً يجذب الجمهور بدلاً من عمل يحدث الفارق المطلوب في التنمية الاجتماعية، وله وجه يمثل ثقافته وهويته.
فمن عصر المثالية العربية والحلم القومي العربي إلى يومنا هذا، لا يزال المواطن العربي البسيط والخارج من دوائر منظومة النخبة الحاكمة والطبقات العليا، التي تليها وتتبادل المنفعة معها مواطناً من الدرجة الثانية في بلده، وبالتالي أصبح اختيار الهوية مسؤولية الفرد المجتمع والدولة، ولكن دون حقوق تذكر لتكامل المواطنة، وبالتالي الهوية.
والانقسام الحادث بين من يريد العودة إلى موارد ومكونات الأصالة المحلية وبين دعاة نماذج التنمية الحداثية، يجمع بين الرغبتين في صراع الهوية، وهذا لن يُحسم في أي وقت قريب.
ولهذا تواجه جميع المجتمعات العربية في اختيار الهوية تحدي تحول الانتماء الحضاري تحت ضغوط وموجات المهاجرين الإلكترونيين، وبالتوازي مع ذلك، ظهرت مؤامرة مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تهدف لتقويض العرب والمسلمين، وبدرجة ليس أقل عبثية من بروتوكولات حكماء صهيون، وسنسمع قريباً عن مخاوف من "سيسيونيتورك فوبيا" بدلاً من الإسلاموفوبيا. العالم الافتراضي يقدم مثالاً رائعاً في أغلب الحالات للتعايش، والإثراء الثقافي المتبادل والاحترام من العديد من المجموعات العرقية والدينية، وذلك رغم تفاقم موجات التطرف بين بعض أفراد نقابة الحضارة "السيبرانية"، ولكن حتى في هذا الخطب، تطغى النوايا النبيلة لفضح الأصوليين الدينيين وغير الدينيين المتطرفين.
ولا يزال العرب يعانون من جراء صعوبة استبدال مصطلح "شعب" بالمعنى المدني السياسي، وجعله مسألة عرقية ولك أن تقرأ كتابات العديد من أكبر مفكري ومثقفي الأمة العربية وتفسيرهم لمعنى الأمة والمواطنة، وجعلها سمة أو وظيفة لحفظ الذاكرة التاريخية. وترتبط أزمة الهوية ارتباطاً وثيقاً بالذاكرة التاريخية تلك، والناس في الشرق الأوسط والأدنى لديهم ذاكرة تاريخية قوية لها تأثير هائل على عقليتهم، وعلى علاقاتهم مع الآخرين والشعور بالكرامة والتفوق ولذلك أصبحت النسخة المتطرفة من الإسلام ملجأ للهوية، وكذلك الكرامة للكثير من المسلمين، وكأنها الملاذ الأخير لاحترامهم لذاتهم بالرغم من عولمة الاتصالات التي أعادت تجميع الناس إلى قبائل عالمية، وتدفق المعلومات وتبادلها الدائم خلال ثوانٍ معدودة، ومتاح للجميع مما يسهل انتقال الذاكرة التاريخية، التي بنيت على العصبية القبلية والقومية الإقصائية والانفصالية المذهبية والمصلحة السياسية والنخبوية الطبقية وأسطورة الرمز، وتسييس وتمييع معنى الوطنية.
فالمناطق الرمادية في الفكر العروبي أوسع من مجرد لغة مشتركة وتاريخ مشترك وقيم ثقافية مشتركة، ونمط واحد للعربي لتسويق مصطلح القومية العربية والحركة العروبية. ونحن نتحدث عن الشرق الأوسط مهد الحضارات والتنوع العرقي، فمتى سيكون لسكان الوطن العربي موقف لإعادة تقييم تصوراتهم عن أنفسهم وكذلك الكيفية التي ينظر بها الآخر لهم؟