بعيداً عن التعريف الاصطلاحي الذي تزخر به قواميس اللغة، واستنادا إلى إحساس النفس وخلجاتها والخواطر السيارة على العقل والنفس في وقت معا، فإن الانتماء هو إحساس فطري غريزي يولد مع الفرد دون إرادة منه، ويقترن به ويكبر معه، لا خيار للفرد فيه كما لا خيار له في اختيار والديه أو محبتهما.
والحق أني لم أفاجأ بذلك الإقبال الحماسي للتسجيل في مراكز الخدمة الوطنية، من شباب أعطاهم وطنهم الأمن والعزة والعيش الكريم، فاختلطت محبته بالعظم واللحم، وحينما يكون نداء الوطن تصم الأذان عن كل الأصوات إلا صوته.
ظهر ذلك منذ طرحت فكرة الخدمة الوطنية الإلزامية فقابلها أبناء الوطن شبابا وشيبا بالابتهاج والبشر، ولا شك أن ذلك يرجع إلى رغبة عارمة تملأ النفس في رد الجميل لوطن كان لأبنائه أما رؤوما، جعلتهم يعيشون حالة من الرضى يؤكدها الواقع، منذ زايد العطاء والخير المبشر والباني للاتحاد، مرورا بخير خلف لخير سلف ممن تربوا في بيت المؤسسين وكانوا على الدرب سائرين فبادلهم شعبهم حبا بحب.
كما تؤكده كافة الدراسات التي خرجت من مراكز دولية لها محددات واضحة لقياس الرضى والسعادة، ولا أبالغ إن قلت إن هناك معادلة عجيبة قد حققتها دولة الإمارات قيادة وشعبا، هي أنها أسست مدرسة للعطاء العالمي جعلت محبتها في القلوب تتعدى أبناءها، فما بالك بأهل الدار وأصحابها.
لذا يمكن القول، ولن أقول بموضوعية لأنني متحيز للوطن وقضاياه، لكن بوضع مقاييس الانتماء والتي دار في إطارها المتخصصون والخبراء ستجدها شاخصة أمامك حين تتحدث عن وطن منح الأمن والأمان لأبنائه، بعيدا عن الدخول بهم وبمقدراته في مغامرات غير محسوبة، وطن جعل من البناء والتعمير وتحدي الصعاب القضية التي تشغل قادته وشعبه، وطن يجعل من التميز ثقافة شعب ومن العطاء خلقا وطبعا.
إن أهمية الخدمة الوطنية تأتي بداية من مسماها، فهي تنتسب إلى الوطن؛ وهو المكان الذي يحل فيه الفرد ويتخذه مقاما، كما أنها الحالة التي يشعر الفرد فيها بحنين إلى المكان الذي رأت عيناه أول ما رأت نور شمسه، وامتلأ صدره بعليل هوائه، وتحسست قدماه تبر أرضه، والتصق جسده بحبات رمله فصارت أغلى من حبات الياقوت والمرجان، والمقام تحت سمائه غاية النفس ومنية القلب، وليس ذلك مجرد دفقات شعورية تغلفها العاطفة فقط لكنه العلم والواقع، فقد عرفنا ورأينا الذين أصيبوا بمرض »الغربة« خلال دراستهم في الخارج ولم يستطيعوا أن يكملوا دراستهم، رغم الطبيب ورغم الدواء إلا أن داء حب الوطن ليس له شفاء، فنحن لا نختار حين نحب ولا نحب حين نختار، كما أننا لا نحب فقط العيش تحت سمائه ولكننا نوصي عند الممات أن يكون مثوانا باطن أرضه، وكأن لنا بتراب الوطن عند الممات أنسا من الوحشة وكأنه يعرفنا وكأن أرضنا أرفق بنا وأحنى.
إن الانتماء للوطن هو ذلك الإحساس الذي يجعل للفرد كيانا ووجودا، كيف لا وهو الذي وهبه جنسيته، وكان بقاؤه مرتبطا ببقائه، وعز الفرد مرتبطا بعز وطنه، لذا عندما تتعارض المصالح الفردية مع مصلحة الوطن تكون الاعتبارات الوطنية قبل أي اعتبار، وتسبق محبته ورفعة شأنه محبة الأهل والولد عند الذود عن حياضه.
الله سبحانه وتعالى يقول في محكم التنزيل ((قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ * وَالله لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)) صدق الله العظيم. من هنا فإن الانتماء للوطن يبدأ أولى حلقاته من الأسرة ودرورها في بث هذه القيمة النبيلة في نفوس أبنائها، كما أن من اعتاد الانتماء إلى أسرته، وهي وطنه الأول، سيكون انتماؤه لوطنه الأكبر أشد، ومن عق أسرته لا تنتظر منه خيرا ولا ترجو له نفعا.
ثم يجيء دور المؤسسات التربوية بداية من مراحلها الأولى وليس انتهاء بالجامعة، لغرس هذه القيمة عبر مناشط عملية عديدة يمكن ممارستها، أولها الانتماء إلى المكان الذي يتلقون فيه العلم والحفاظ عليه.
ولأن للمواطنة الحقيقية أركانا أساسية يجب أن تكتمل، فمن أهمها ركن الانتماء الذي يجعل إحساس الفرد بوطنه كإحساسه بذاته أو أكبر، وأن النيل منه أو المساس به هو تهديد لكيانه ذاته.
وهل من الممكن أن يعيش الفرد دون انتماء لأرض أو لشعب أو لنظام أو منظومة قيمية واجتماعية؟ إن من أقسى المشاعر تلك التي تنتاب الفرد حين يكون بلا هوية يستند إليها وبلا إطار جامع يفخر بالانتماء إليه، فهو المرجعية الكبرى عندما تلتبس الأمور وتختلط، ومصلحته هي البوصلة التي يهتدي بها حين تشكل عليه القضايا. ولا شك أن الانتماء للوطن من أهم مصادر قوة المجتمع والتقارب بين أبنائه، والشفرة التي تميزهم عن غيرهم وتجمعهم على أمر غير مختلف عليه، وليس محل خلاف أو نقاش أنه هو الحاضنة والجامعة التي تذوب فيها كل الخلافات والاختلافات المذهبية والعرقية والفكرية.
ولأن الفرد لا يمكن أن يطبق المعنى الحقيقي لمفهوم المواطنة دون إحساسه بالانتماء له، ولأن هذا المعنى من غير الممكن أن يكون إلا عبر الممارسة والسلوك الفعلي، ولا شك أن ممارسة قيم الانتماء ذات أوجه متعددة، لأنه العاصم من القواصم والمخلص من العديد من الآفات الاجتماعية، فإن الخدمة الوطنية هي أبهى صوره وذروة سنامه، والتي لا تعبر عن الانتماء فحسب، بل هي عنوان الولاء والكاشفة عنه والذي يأتي عندما يصدق الانتماء، فقد ينتمي الفرد إلى المكان بحكم النشأة والولادة غير أن الولاء هو التطبيق لهذا الانتماء، فلا ولاء دون انتماء، وهو ما حول الإمارات من وطن نعيش فيه إلى قصة حب وهيام تعيش في نفوسنا وترسم على قلوبنا وجهه المشرق بشمس العزة والكرامة.