عندما شرعت في كتابة هذا المقال أعجبتني مقولة في الأثر العربي: »مرّ وترك أثراً ومرّ ولم يمر «نعم كثير هم رؤساء الدول وملوكها وزعماؤها الذين مروا على هذه الدنيا، وطويت صفحات أكثرهم ولم تعد تحن إليهم أفئدة شعوبهم، بل إن تلك الشعوب تتمنى أن تلك الصفحات لم تكن موجودة في تاريخهم أصلاً.
ولكن هناك القليل منهم من ترك أثراً عظيماً يتذكره العالم من بعده، ومن أهم هؤلاء الزعماء القلائل المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، فقد حفر اسمه بحروف من نور في سجلات التاريخ الإنساني، لما كان له من إنجازات فاقت حدود التصور، وتخطت حدود دولته إلى الآفاق الإنسانية من حوله. فقد كان صاحب رؤية سياسية واقتصادية جديرة أن تدرس في أرقى معاهد السياسة ومراكز إعداد القادة العالمية، كنموذج لزعيم قاد مدينة في الصحراء فصنع منها وجيرانها اتحاداً قوياً ودولة عالمية زاهية خضراء، تنافس على السمو وتعانق في الارتقاء عنان السماء.
لم يقتصر في بنائها على تشييد المدن وإعداد أقوى البنى التحتية على أحدث الأنماط العصرية، بقدر ما بنى شعباً أصيلاً متمسكاً بدينه ومحافظاً على قيمه وأصوله.
لقد كان الشيخ زايد بمثابة الوالد الحاني على بنيه، جمع شتاتهم ووحد كلمتهم وصنع لهم مجداً يعانق الثريا، ولم يكن هذا المجد مجرد ثراء مادي وتكنولوجي، وإنما كان ثراء أخلاقياً ورثه الأبناء عن الوالد الحكيم حتى صاروا من أكثر شعوب العالم أدباً وأخلاقاً.
ومن بين أهم الأخلاقيات التي ورث فيها الأبناء والدهم، السخاء والكرم والجود، والحنو على الفقراء والمحتاجين، واتساع أفق الروح الإنسانية.
ولم تقتصر رؤية زايد وجهوده الخيرة على دولته فحسب، بل تخطاها إلى أفق الإنسانية الفسيح؛ فقد كان المغفور له يحمل قلباً يسع العالم من حوله، يشعر بهموم المهمومين ويتلمس حاجات المحتاجين والمنكوبين والمتألمين حول العالم، فهو رمز العطاء والإنسانية في هذا الزمان، بما قدمه من إنجازات هائلة في آفاق العالم أجمع.
فهو إنسان بكل ما ترسخه هذه الكلمة من معانٍ تسمو وترقى، لم ينظر إلى ديانة أو جنسية أو عرق أو لون، نهل من فيض عطفه الصغيرُ والكبيرُ، الإنسان والحيوان في السراء والضراء، فقد كان وما زال بطل المواقف الصعبة ورجلها، مهاباً في الحق، صديقاً ورفيقاً في كل المواقف حتى ملك قلب كل من سمع عنه.
يقول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد المكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، واصفاً الوالد الشيخ زايد بأنه زعيم عالمي للإنسانية: »عاشرت العديد من زعماء العالم على مدار العقود الماضية، لكنني لم أر في حياتي مثل إنسانية الشيخ زايد وتواضعه وحبه للخير وللناس بمختلف مشاربهم«، وأضاف سموه: »عندما نتحدث عن الشيخ زايد وقامته ورجولته وشهامته وقيادته، فإننا نحتاج إلى أمسيات ومجلدات، ومع ذلك فإن أقل ما يمكن أن يقال عن هذا القائد الفذ أنه زعيم للإنسانية وعنوانها«.
إن التاسع عشر من رمضان من كل عام ذكرى ليوم زايد، ذكرى للعمل الإنساني والخيري، ولكن عمل ومآثر زايد لا يحددها يوم في العام؛ فبصماته الخيرة امتدت إلى أرجاء العالم، ولم يكن ذلك بشكل عشوائي، بل كان عملاً منظماً أقيمت من أجله مؤسسة خيرية هي مؤسسة زايد للأعمال الإنسانية، تلك المؤسسة التي وصلت أعمالها خلال العشرين عاماً الماضية إلى 117 دولة في 6 قارات، واقتربنا من تغطية قارات العالم السبع. وتعددت أشكال وصور الأعمال الإنسانية التي تقوم بها؛ من بناء المدارس والجامعات والمستشفيات وحفر الآبار، وما قدمته من أعمال إغاثية ومساهمات ومساعدات في كافة أرجاء العالم.
فزايد في عطائه وإنسانيته الفياضة، يستحق منا الوفاء، والوفاء خلق عظيم يكشف عن سمو النفس وفيض الإنسانية في نفس صاحبه، وهو خلق الكرماء الباذلين والرجال الأجواد العارفين، خلق يتعدى الإنسان لكي يكون محموداً حتى في الحيوان، يعوّد الإنسان الاعتراف بالفضل والمقابلة، إنه رد الجميل لمن أسدى إلينا معروفاً، أو مد إلينا يداً بالحسنى.. وإذا ذكر الوفاء ذكر معه شعب الإمارات، الذي يحمل بين طيات نفسه حباً ووفاء لقائده وزعيمه المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، فهو المعلم الذي رسخ معنى العطاء والعمل الإنساني في نفوس أبناء الوطن، حتى أضحى العمل الإنساني ومد يد العون للشعوب المنكوبة سمة بارزة من سمات شعب الإمارات، التي ينظر لها في العالم كواحدة من أكبر دول العالم المانحة للمساعدات الإنسانية، ومرادف للخير والعمل الإنساني على الصعيد الدولي.
لقد ترك لنا أبونا زايد، طيب الله ثراه، إرثاً من العمل الإنساني ورصيداً وافراً من معاني الوفاء والولاء والالتزام بالمسؤولية الإنسانية، وهو قدوتنا وملهمنا في عمل الخير، واكتسبت الإمارات بفضل ما قدمه وما أرساه من قيم في هذا المجال، السمعة الطيبة والمكانة المرموقة.