لا شك أن خدمة المجتمع تعني في أبسط معانيها أن تتسع دائرة رؤية الأفراد والمؤسسات بعيداً عن ذواتهم، وترتقي فوق المنافع الذاتية لتشمل من حولهم، وهي ترتبط تاريخياً ارتباطاً وثيقاً بتقدم المجتمعات، وتكشف عن مدى تحضرها، فكلما ارتقت الشعوب تجد أن الخدمة المجتمعية كانت حاضرة بأسماء مختلفة، وتاريخنا العربي والإسلامي حافل بتلك المآثر لأصحاب العطاء المجتمعي، منذ أن اشترى ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه »بئر رومة« لينتفع بها المسلمون جميعاً، وليبقى يخلد اسمه حتى الآن مقروناً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، »لا ضر عثمان بن عفان ما يفعل بعد هذا«، كيف لا وهو من جهز جيش العسرة من ماله الخاص؟ لذا كانت جائزة دبي التقديرية لخدمة المجتمع، صفحة جديدة في كتاب التميز لأمة حية، ومجالاً من مجالات التنافس في البناء تخطت فيه الإمارات دوماً حدودها الجغرافية إلى المحيط العربي والإقليمي، بل والإنسانية جميعاً، لتضرب بذلك نموذجاً فريداً في العطاء الإنساني على المستوى الدولي، ولتؤسس عاصمة العطاء الإنساني.
إن هناك جوائز يحصل عليها الفرد لتقدم حققه في مجال من المجالات أو لمنافسة أحرز فيها سبقاً وهو أمر محمود، إلا أن بعضاً من جوانب التميز هذه لا يتعدى أثره الفرد ذاته، غير أن أعظم ما يقوم به الفرد من أعمال هو ما تعداه إلى غيره وما انتفع به العدد الأكبر من الناس من حوله، لذا كان قول رسولنا الكريم »إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها«، لبيان قيمة تقديم النفع المجتمعي والحث على تقديم الخير للناس في كافة الظروف والأحوال.
وهنا تأتي جائزة دبي التقديرية لخدمة المجتمع، في السياق العام لحالة التسابق نحو فتح آفاق جديدة للتميز في كافة المجالات، فإذا كان لدبي قصب السبق في إطلاق جائزة التميز الحكومي، وفيها يتسابق أبناء الوطن كل في مجاله للإبداع والابتكار، فإن الوجه الآخر للتميز يأتي بالعمل المجتمعي وخدمته، وهو أقرب إلى التطوع منه إلى الارتباط الرسمي، كما أن من يقوم به يحدد المجال الذي يستطيع فيه أن يخدم المجتمع بشكل أكبر، وهذا هو سر تميز العمل المجتمعي بصفة عامة، وقديماً قالوا »ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط«، بل تمتد حياة الفرد في حياة كل من نالهم ما قدمه من عطاء يبقى أثره.
ويأتي الجانب التربوي من إطلاق الجائزة عبر تقديم المثل لشبابنا بالقدوة والنموذج، وهو أقوى أثراً وأعظم تأثيراً في بناء الشخصية السوية من عشرات المحاضرات، كما أنها تقوي متانة النسيج المجتمعي عندما يدرك الفرد أن النجاح الذي حققه في مجال من المجالات لم يكن أن يحدث لولا بيئة مواتية قد أتاحت له ذلك، وهو ما يستوجب عليه رد الجميل والعرفان لشركاء النجاح. وللأسرة دور يعتد به في غرس هذه القيمة التربوية في نفوس أبنائها منذ الصغر، من حيث الحفاظ على مكتسبات مجتمعهم والمساهمة في تنميته من خلال ما يقومون به من أعمال، عبر قيامهم برحلات ومناشط تهدف إلى خدمة المجتمع، وليكن ذلك في مجتمعهم الصغير، مثل تشجير فناء المدرسة، أو القيام بزيارات إلى دار الأيتام ورعاية المسنين، أو المساهمة في التوعية الصحية.
كما أن هذه الجائزة تفتح مجالات رحبة للشركات والمؤسسات والجمعيات لخدمة مجتمعها، وهو أمر له ما له من بناء علاقة من الود والثقة بين هذه المؤسسات وجمهورها، فكما هو ثابت في علوم الإدارة فإن كافة المؤسسات العاملة في مختلف الأنشطة لها جمهور داخلي وهم العاملون فيها، وجمهورها الخارجي وهم المتعاملون معها والمترددون إليها.
ومن الأهمية بمكان أن ينظر جمهور المؤسسة، وهو المجتمع المحيط، نظرة تقدير واحترام لها، باعتبارها مواطنا صالحا من خلال ما تقدمه من أعمال تحظى باحترامه وتقديره، ذلك أن كافة المؤسسات العاملة في المجتمع تتعرض في مجالات عملها لأزمات وأوقات عصيبة، وهنا يكون رصيدها بما قدمته من خدمات على مدار تاريخها ومسيرتها، هو الظهير الحامي لها والداعم لأنشطتها والمقيل لعثراتها، بل ويصبر عليها حتى تعود لسيرتها الأولى، وآيات ذلك أكثر من أن تحصى إقليمياً وعالمياً.
كما أن لكافة الأنشطة والمشروعات بعداً اقتصادياً وآخر اجتماعياً، وهو المتعلق بالدور الذي تقوم به المؤسسة في محيطها، ومن الخطأ تغليب البعد الاقتصادي على البعد الاجتماعي، لأنه على المدى البعيد يؤثر على البعد الاقتصادي ذاته، إذ من الضروري أن ينظر المجتمع إلى المؤسسات العاملة باعتبارها تهدف إلى تقديم الخير لأبناء مجتمعها وتعنيها مصلحتهم، وهو ما يسمى بسمعة المؤسسة، ولبناء هذه السمعة تقوم المؤسسات بالعديد من الأنشطة المجتمعية، باعتبار مسؤوليتها الاجتماعية مثل بناء المدارس أو المستشفيات أو إقامة مشروعات ليست ربحية أو منح تعليمية وغير ذلك كثير.
آية ذلك جامعة »هارفارد« - التي تأسست عام 1636- والتي تعد من أقدم الجامعات الأميركية وأغناها، كما أنها تأتي في مقدمة الجامعات العالمية في العديد من التخصصات، فهي جامعة أهلية وليست حكومية، وتحمل اسم »جون هارفارد« الذي كان له دور كبير في دعمها، سواء مادياً أو بتأسيس مكتباتها التي تعد الأكبر والأغنى عالمياً.
إن المسيرة التنموية للأمم القوية تقوم على جناحين أساسيين هما: الجناح الحكومي؛ والذي يمارس عمله من خلال مؤسسات الدولة الرسمية، والجناح المجتمعي؛ وهو ما تساهم به المؤسسات الأهلية من أعمال لخدمة مجتمعها، ولا يمكن لمجتمع أن يرتقي بجناح واحد، ذلك أن أية خطة تنموية لا يمكن أن يكتب لها النجاح دون إيمان المجتمع بها والحفاظ عليها والارتقاء بها، وأن يكون جزءاً منها، وتقديم الخدمات للمجتمع من أبواب شكر النعم لله عز وجل، وشكرها يأتي بجزيل عطائها ومد نفعها للغير، والله سبحانه وتعالى يقول في محكم التنزيل (لئن شكرتم لأزيدنّكم).