اليوم هو الثاني من أغسطس (آب) 2014، أي أن 24 عاما مرت على يوم احتلال الكويت من قبل نظام صدام حسين، في الثاني من أغسطس 1990. مرت خلال هذه السنوات أحداث كثيرة وعظيمة، على المنطقة العربية، وعلى الكويت، إلا أن تذكر تلك الأيام والخيارات التي جرت فيها، قد يعطي البعض شيئا من فرصة التأمل للقادم في المنطقة، وهو خطير، بأي ميزان قد يوزن.
أولا: العراق منذ ذلك الوقت حتى اليوم لم يهدأ، ولم يصل إلى بر الأمان، والطريق أمامه شائك، الأسباب كثيرة، وربما معقدة، إلا أن ما أطلق كل تلك التداعيات الخطيرة هو القرار الأهوج، والمفارق للعقل، حيث اتخذه شخص واحد وربما عدة أشخاص (غير قادرين على مناقشة الزعيم) في وقت ما من شهر يوليو (تموز) 1990. كان ذلك القرار مفرطا في الشخصانية، وغير ملمّ بأبسط دروس التاريخ، وهي أنك تستطيع أن تشعل حربا، ولكنك لا تستطيع التكهن بنتائجها أو تداعياتها، مهما بلغ متخذ القرار من القوة والصلف. من ذلك القرار بدأت حبات مسبحة العراق، كما عُرف تاريخيا، تنفرط، وهي حتى اليوم، بعد 24 عاما، سائرة في الانفراط، ويتحكم في مصير العراق اليوم إلى حد كبير من غير أبنائه كثيرون، وإرادة الشعب العراقي الحرة مقيدة، ومناطقه مفتوحة للانشقاق، وثروته تُنفق هباء، وإنسانه في وضع من سيئ إلى الأسوأ.
ثانيا: من بين عوامل كثيرة ساعدت الكويت على التحرر في سبعة أشهر من ربقة الاحتلال، الموقف العربي (السعودي - المصري - الخليجي) في قاعدته الأساس، ومنها أيضا، وهو الذي شكل العمود الفقري للتحرير، الاصطفاف الكويتي الشعبي الداخلي والخارجي الموحَّد، الذي توافق عليه أبناء الوطن، دون شق للصف، أو ضبابية في الرؤية، وقد حاول المحتل جل جهده أن يحقق الفرقة وفشل. وقد تحقق وقتذاك ما لم يتحقق في تاريخ الصراعات؛ أن دعت سلطة، وهي في المنفى، إلى عقد مؤتمر شعبي جامع في جدة، من أجل تدارس الموقف، ورسم خارطة طريق للكويت، كان ذلك خليطا من الشجاعة والثقة من قبل القيادة الكويتية، أن تدعو إلى ذلك المؤتمر، وقد أصبحت وثائقه وبيانه النهائي مشروع دراسة لمن يرغب في فهم كيف يصطف الشعب مع قيادته في العمل على التحرير، وقدم الكويتيون في الداخل تضحيات جليلة، منها الاستشهاد (بين رجل وامرأة وطفل) من كل الأعمار والفئات والمشارب والاجتهادات، من أطياف المجتمع الكويتي، كان العمود الفقري هو «الوحدة الوطنية»، التي جعلت من الكويتيين عمال مخابز، ومنظفي شوارع، وموزعين للمواد الغذائية، وفوق ذلك متكاتفين في الضراء، هذا الأمر، مع الأسف الشديد، بعد 24 عاما، تبخر جله، ولم يبقَ منه إلا حده الأدنى، لقد تناقص التكاتف الاجتماعي، وضمرت الوحدة الوطنية، ليحل محلها صراع عبثي يؤججه الجهلة والراغبون في التسلط، أنتج تشوهات في العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولم يعد من ذلك التكاتف في الوحدة الوطنية، التي تبحث عن الجوامع بدلا من الفرقة، والتوافق بديلا عن النزاع، إلا النزر اليسير. ميزان العمل السياسي اختل إلى درجة تجرحت معه الوحدة الوطنية، وتعرض الصف إلى الاختلال، في وقت تحيط فيه بالكويت عواصف سياسية هوجاء.
رابعا: لا بد في هذه الذكرى الحزينة أن نتذكر القيادة الكويتية التي قادت السفينة بالامتنان، خاصة من رحل منهم؛ المرحومين جابر الأحمد، وسعد العبد الله، حيث أسهما في تخطي أكبر وأعمق أزمة مرت بها البلاد في تاريخها الحديث، ولا شك أن شخصيات مثل المرحوم الملك فهد بن عبد العزيز، الحازم المرن، كان لها والسعودية مكان مركزي في تطور الأحداث إلى نتائجها الإيجابية، وقيادات خليجية اليوم لم تعد موجودة بيننا، منهم المرحومان زايد بن سلطان وعيسى بن سلمان.
خامسا: الوضع العربي وقتها كان متماسكا إلى حد كبير، خاصة الموقف المصري - السوري، تجاه الحدث الجلل، وهما ركيزة كبرى في العمل العربي المشترك، اليوم لم تعد تلك الركيزة موجودة أو مأمولة، ويعرف المتابعون كيف ينظر أهل الحكمة من الخليجيين لأهمية التماسك العربي، وكان العمل على ذلك التماسك (أو قل أغلبيته) من أولويات العمل السياسي الخليجي، اليوم الصف يكاد يكون ممزقا؛ سوريا تنزف، مصر تواجه مشكلات ليست خافية على الجميع، والهجوم المركّز على آخر صف ثابت (المملكة العربية السعودية ودول الخليج) حاسم ومركز، ويحمل الخبث كله. حتى الصف الخليجي غزته جرثومة التفكك، وبالتالي، فإن الاصطفاف العربي لم يعد إلا في حدوده الدنيا، والهجمة الداخلية والخارجية عاتية، محملة بكثير من المفاجآت، كما أن الموقف الدولي في حده الأدنى متذبذب، وقابل للتغير دون مقدمات، وأكاد أقول: دون حد أخلاقي، كما ينذر ببداية حرب باردة جديدة، أو حتى ساخنة.
سادسا: هذه الصورة التي تتركب أمام ناظر الجميع، هي صورة الـ«لا استقرار»، هي صورة الاضطراب، هي صورة تنذر بمخاطر جمة. قد تكون مخاطر وقعت منذ 24 عاما مضت، لا تشكل إلا جزءا من المخاطر الكبيرة المنتظرة التي تواجهنا اليوم. الأكثر فداحة اليوم أن الانشقاق العربي لم يعد محصورا بين الحكومات، أو بين الجماعات السياسية، وسائل الاتصال الحديثة أوصلت الانشقاق إلى العامة، فحول أي قضية تطرح، تجد هذا التلاسن القبيح بين مؤيد ومعارض يصل في اللحظة والتوّ إلى قاع المجتمع، ويدلي حولها من يعرف ومن يجهل بالرأي، ذلك الشقاق ينم عن مرض ثقافي عميق، مرض يعيدنا قرونا إلى «داحس والغبراء» على نطاق واسع. إنها حرب إعلامية ضروس، الكذب والمخادعة فيها أكثر من الصدق وعرض الحقائق، من هنا الدعوة إلى منظور استراتيجي مختلف لترميم الصف الداخلي، وفي العلاقة مع الخارجي، واجبة النظر؛ فلم تعد الحسابات القديمة تصلح في موازنة دفتر السياسة الجديد، هي حسبة مختلفة، عناصرها مختلفة، ومخاطرها مختلفة، ونتائجها مختلفة. نحن أمام عصر عربي جديد، مسبوق، الانشغال بالحدث اليومي، والتطلع إلى الشجرة، ونسيان النظر إلى الغابة، قد يودي بمنطقتنا إلى ما لا تحمد عقباه.