«حزام واحد، طريق واحد»، مبادرة صينية ستعيد تشكيل التجارة العالمية، وهي برنامج اقتصادي ودبلوماسي قادر على الوصول إلى حوالي 65 في المئة من سكان العالم، وحوالي ثلث الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وحوالي ربع جميع السلع والخدمات التي يتحرك بها الاقتصاد العالمي. وهو المسار الذي سيجعل للصين نفوذاً غير مسبوق، وبنية تحتية تمتد إلى معظم دول العالم، كما سيمكِّنها بالتالي من السيطرة على الأسواق الناشئة.
والسؤال المطروح، على ضوء مبادرة «حزام واحد، طريق واحد»، هو: كيف سيتم تمويل كل هذه المشاريع؟
ومن جهة أخرى فقد أصبحت منطقة الشرق الأوسط للمرة الأولى جزءاً مهماً وأساسياً من الاستراتيجية العالمية للصين، حيث تتداخل المنطقة بشكل متزايد مع المملكة الوسطى في شرق آسيا، وبما أن الصين هي القوة العظمى الوحيدة التي لم ترتكب أخطاء كبيرة في سياستها حيال الشرق الأوسط وأزماته خلال السنوات العشرين الماضية، إذ ظلت بلداً سبَّاقاً في السياسة الاقتصادية، لكنها بقيت حذِرةً ومحافظة عندما يتعلق الأمر بقضايا الأمن والسياسة. لكن مع نمو دور الصين وحضورها المتزايد في الشؤون العالمية، فإن مسؤولياتها توسعت أيضاً في التأثير على الصراعات العالمية والإقليمية المتوترة، بما في ذلك صراعات الشرق الأوسط وتوتراته، والتي تؤثر على العالم بأسره. وللمرة الأولى في التاريخ، تمتلك الصين في الوقت نفسه مصالح سياسية واقتصادية وأمنية مهمة في الشرق الأوسط، لذلك فهي تعمل بحكمة على إيجاد سياسة لها، كاملة وواضحة ومتسقة، في المنطقة.
فالمفهوم الصيني للأمن القومي يتضمن إيجاد منطقة نفوذ استراتيجية في قلب نصف الكرة الغربي، وهي دائرة تتواجد فيها أوروبا بالضرورة، لذلك يجب إقصاء نفوذ الولايات المتحدة الأميركية هناك، ذلك بالضرورة من خلال التعاون مع روسيا، بحيث يشمل النفوذ الاستراتيجي الصيني السيطرة الاقتصادية، ومشاركة الولايات المتحدة هيمنتها على المحيطين الهادئ والأطلسي، والبدء على نحو هادئ في بناء قواعد خارجية لتوسيع الحدود الاستراتيجية للنفوذ الصيني، والعمل على ترسيخ القوة الناعمة الصينية، وإقامة علاقات تركز كثيراً على حقوق الترانزيت كي يسهل تحول القواعد التجارية إلى مدن صناعية ومشاريع تنموية صينية يمكن تحولها لقواعد ذات استخدامات مختلفة، ومن ثم الوصول إلى الأسواق ومصادر الثروة في القسم الأعظم من أوراسيا.
وينظر العديد من المراقبين الصينيين إلى تصويت بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي وفوز دونالد ترامب بانتخابات الرئاسية الأميركية، كدليل على أن النظام الليبرالي الذي يقوده الغرب يدخل مرحلة جديدة من التقشف ستوفر مساحة أكبر للصين لتوسيع حضورها العالمي. وهو موضوع محل نقاش جاد في الصين، حيث يجادل بعض كبار علماء السياسة والمستقبليات الصينيين بأن النظام الدولي لا يزال أحادي القطب وتهيمن عليه الولايات المتحدة، بينما يعتقد آخرون أن النظام الدولي في لحظته الحالية أصبح ثنائي القطبية، في حين تعتقد مجموعة ثالثة أن النظام الدولي بات متعدد الأقطاب، مع وجود قوى رئيسية توازن بين بعضها البعض، وهو ما يبرز أهمية الشرق الأوسط في المعادلة الدولية بالنسبة للصين.
فهل هناك في المجتمع العالمي قبول بظهور الصين وترحيب بإعادة هيكلة وإصلاح النظام العالمي، خاصة فيما يتعلق بمصالح الدول النامية؟
إن بعض قرارات إدارة الرئيس ترامب، مثل الانسحاب من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، ومن اتفاقية باريس للمناخ.. تضيف المزيد من الوقود إلى المزاعم بأن الولايات المتحدة في حالة تراجع وأفول.
لذلك يصنف العلماء الصينيون التشكيلات الدولية من حيث «الأعمدة» و«مراكز القوة»، ويستخدمون مقاييس ملموسة، مثل الناتج المحلي الإجمالي، والسكان، والقدرات الإنتاجية، والقدرات العسكرية.. لتقييم القوة النسبية للتشكيلات العالمية. ووفقاً لاعتباراتهم الدقيقة، فإن الأمة تكون «قطباً» حقيقياً فقط إذا ما امتدت قوتها عالمياً، وهو ما يحدد عدد الأعمدة، وإذا ما كان النظام أحادي القطب أم ثنائي القطب أم متعدد الأقطاب.. وذلك ما يحدد بنية مراكز القوى الأخرى حول القطبين، والتوزيع الكلي للطاقة، وكيفية عمل النظام حسب مصطلح الأدبيات السياسية الصينية التي تستخدم مصطلح «التكوين الدولي» باعتباره الأكثر تحديداً بالمقارنة مع مصطلح «النظام العالمي».
ومن منظور صيني، فقد أظهرت الأزمة المالية العالمية لعام 2008 أن قوة الصين آخذة في الارتفاع، وأن القوة الأميركية آخذة في الانخفاض، وأن النظام الأحادي القطب الذي تقوده الولايات المتحدة في مرحلة انكماش وتراجع قهري، بحكم معطيات الديون العامة المتراكمة على القوى الاقتصادية الكبرى، مع تسارع الموجة الأخيرة من السياسة القومية الشعوبية في الولايات المتحدة وأوروبا، والتحولات الجارية في الهيكل السياسي الأساسي لتلك البلدان والمناطق.