علمنا من العنوان الرئيسي لجريدة الصباح أن ثمة توجيها رئاسيا في مصر بإعداد مناهج دراسية جديدة تحض على نبذ العنف والتطرف (الأهرام ٢٤/٦)، في اليوم التالي مباشرة أبرزت الصحيفة ذاتها على الصفحة الأولى أن قرارا صدر بوقف إعلان تلفزيوني عن البطاطس بدعوى أنه يحرض على العنف. وفي نفس الأسبوع قرأنا أنه بدأ إرسال قوافل للعلماء إلى ١٥ دولة في أنحاء العالم للدعوة إلى السلم وتحصين الشباب ضد الغلو والتطرف. وهي إشارات لا تخفي في دلالتها أن موضوع العنف والتطرف أصبح يحتل أولوية قصوى في الخطاب السياسي فضلا عن الإعلامي. وهو تشخيص قد لا اختلف كثيرا معه، رغم أنني أحذر من التعميم فيه لأن العنف الحاصل تختلف أسبابه ومصادره من بلد إلى آخر. إذ هو في العراق صراع مثلا طائفي بينما هو في مصر من تجليات الصراع السياسي وهو في ليبيا صراع قبلي. وإذا كان الاختلاف حول التشخيص محدودا، فإنه في التأصيل والعلاج أكبر. وخلافي في التأصيل راجع إلى أننا نحارب خصما لا نعرف مصادره بالضبط، ونستخدم في ذلك أسلحة وأساليب مشكوك في جدواها، متصورين أننا بمثل الإجراءات التي أشرت إليها يمكن أن ننتصر بها في المعركة التي لا حدود لها.
تذكرني حفلة الإجراءات والبيانات التي نتصور أنها تحارب العنف بمقولة سمعتها من أستاذ الفلسفة الأشهر الدكتور زكي نجيب محمود انتقد فيها طريقة التفكير في حل المشكلات والأزمات في مصر، التي ذكر أنها تتسم بالتبسيط والكسل العقلي. ذلك أننا نعمد إلى تحرير مذكرة أو ملء استمارة أو إصدار قرار إداري. ونعتبر أن مثل هذه الخطوات كفيلة بتوفير الحل. كما أنها تغني عن البحث وتحري الجذور والعوامل الاجتماعية أو البيروقراطية التي أفضت إلى المشكلة. بمعنى أن التفكير السائد يتجاهل الخلفية والجذور، ويستسهل تشكيل اللجان وعقد المؤتمرات وإصدار البيانات والتوصيات معتبرا أنها كفيلة بتحقيق المراد.
لست أشك في أن وزارة التربية والتعليم مثلا سوف تستقدم الخبراء وتعقد اللجان التي ستناقش ما تعتبره تنقية للمناهج الدراسية من أي إشارات تعتبرها مشجعة أو يشتم فيها تسويغ التطرف أو العنف، ولن تألو جهدا في إضافة ما تعتبره داعيا إلى المحبة والتعايش والسلم الأهلي. ولا أعرف كم من الوقت يمكن أن يمر لكي يدرك هؤلاء أن دلائل العنف مازالت كما هي، وأن كلام الكتب إن لم يكن قد تبخر في حينه، فإنه نسى في العطلات ولم يحدث أي تغيير في السلوك. وما يقال عن الكتب يسري على الخطب التي يلقيها المبعوثون في جولاتهم، وعلى قرار حجب إعلان البطاطس أو أي إعلانات أخرى مماثلة.
من المفارقات التي تثير الدهشة أننا في الوقت الذي تعبأ فيه الجهود للتصدي للعنف المجتمعي من خلال الإجراءات والمؤتمرات والبيانات، فإن عنف السلطة يستمر ويتم التسامح معه وتبريره وتشجيعه في بعض الأحيان. خذ مثلا المظاهرات السلمية التي يحشد البلطجية لإجهاضها وتتصدى الشرطة بالخرطوش لإيقافها وتتولى المحاكم العسكرية ترويع المشاركين فيها. هذه الأصداء لا تعد فقط من مظاهر العنف الذي يقهر الشباب ويقمعهم، ولكنها تبعث برسالة إليهم تلقنهم دروسا في ممارسة العنف، وتقنعهم بأنه الوسيلة المعتمدة لحسم الخلافات.
أضف إلى ما سبق قائمة الانتهاكات التي تصدر عن الشرطة ولا يحاسب عليها أحد، وتتناقل أخبارها مواقع التواصل الاجتماعي طول الوقت. زد على ذلك مهرجان المحاكمات والإعدامات واستخدام القانون للتضييق من الحريات والالتفاف على الطوارئ. حينئذ ستدرك أن هذه كلها ليست من علامات التسامح أو الاعتدال. لكنها في جانب منها بمثابة جهد حثيث لنثر بذور العنف وإشاعة المرارات والثأرات. وحين يهلل البعض لاستخدام القوة في فض الاعتصامات والتظاهرات. ويلوح آخرون باقتحام بيوت المعارضين وتصفيتهم. وحين يتحول نفر من المثقفين والإعلاميين إلى شبيحة يحرضون على القمع والاستئصال. فإن هذه الأجواء تشيع نوعا من الهستريا يهيج المشاعر ويمحو كل أثر لخطاب نبذ العنف.
إن أحد أهم الوسائل الفعالة في محاربة العنف أن تقدم السلطة النموذج، وتضرب المثل في التسامح واحترام القانون والدستور. ذلك أن المجتمعات تربي ولا تلقن، وصدق من قال: إن كل نظام يستنبت المعارضة التي يستحقها. من ثَمَّ فإن الاكتفاء بوعظ الناس لا يجدي، لأن الكلام يفقد رنينه إذا لم يكن معبرا عن حقيقة تمشي على الأرض. ولو أن الكلام وحده كافيا لما قيل إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. ذلك أن المجتمع الذي يرفل في الحرية والتسامح وترفرف عليه رايات العدل يعلم الناس فضائل التعايش الكريم التي ننشدها. أما ذلك الذي يسوده البطش والظلم فإنه يستخرج من الناس أسوأ ما فيهم، والعنف من الإفرازات الطبيعية في هذه الحالة.
إن ما نفتقده حقا ليس موعظة أو مقالة أو مؤتمرا لهجاء العنف والإشادة بالتسامح والاعتدال، وإنما بيئة ثقافية وسياسية تجسد ذلك التسامح بما يحث الناس على التخلق به واحتذائه. وإذا خلصنا إلى ذلك فسندرك أننا أحوج ما نكون إلى تجديد الخطاب السياسي وإلى ثورة في الفعل السياسي تعيد الاعتبار لقيم العدل والحرية وتنتشلنا من مستنقع الاستقطاب والكراهية والتبشير بإبادة الآخر، وحينئذ فقط نستطيع أن نتفاءل بالانتصار في المعركة ضد العنف والإرهاب.